المؤتمر العشرون
16 – 19 نيسان/ابريل 2009
الخرطوم - السودان
المقاومة كخيار إستراتيجي للأمة: البُعد العربي (الرسمي) **
د. يوسف مكي *
* عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
*** لا يجوز نشر هذه الورقة كلا أو جزءا إلا بموافقة تحريرية من إدارة المؤتمر.
النظام العربي الرسمي والمقاومة
تمهيد:
باستثناءات نادرة، يمكن القول أن المقاومة العربية ضد الوجود الاستعماري، فيما بعد الحرب العالمية الأولى هي فعل شعبي، اقتصر دور الحكام فيه، بأحسن الأحوال، على تقديم الدعم والمساعدة للحركات التي قادت المقاومة. وفي مسيرة هذا الكفاح، تمتعت حركات التحرر الوطنية التي قادته باستقلال نسبي في صياغة برامجها السياسية وإستراتيجياتها الكفاحية.
ويمكن الزعم، أن حركات التحرر الوطني، أخذت مكانها في مرحلة تاريخية، اتسمت بكون مجمل المعطيات الإقليمية والدولية تصب في صالحها. فقد بدأت محطة انطلاق الأمة نحو التحرر من الاستعمار، بهدف الإنعتاق من الهيمنة العثمانية، وإنجاز استقلال المشرق العربي. لكن العنصر الفاعل في تلك المرحلة، لم يكن النخب الشعبية، التي جرى تغييبها عن النضال، حيث رسمت الإستراتيجيات والتكتيكات اعتمادا على المتغيرات الدولية، وحسن نيات الحلفاء البريطانيين، لتحقيق هدف التحرير.
إلا أن تكشف الدور البريطاني والفرنسي، بعد سايكس- بيكو نقل الصراع لاحقا مع الاستعمار التقليدي الأوروبي إلى مواجهة مسلحة، مثلت الجماهير الشعبية عمقها. وقد كشفت نتائج الحرب العالمية الثانية، عن تضعضع قوة الإمبراطوريات القديمة، وهزيمتها، بما أسهم من تمكن حركة التحرر الوطني بالبلدان العربية، من استثمار ذلك والإجهاز على البقية الباقية من تلك الإمبراطوريات.
ولا شك أن انقسام العالم إلى معسكرين: رأسمالي واشتراكي، والرغبة المشتركة للقطبين العظميين في إزاحة القوتين الاستعماريتين التقليدتين والإحلال مكانهما، أسهم في تمكين حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، من إنجاز مهمة تحقيق الاستقلال السياسي. فقد تبنت الولايات المتحدة الأمريكية منطق الإزاحة للبريطانيين والفرنسيين، أما الإتحاد السوفيتي فأمل بنصرته لحركات التحرر الوطني، أن يوسع دائرة نفوذه، تعزيزا لإستراتيجيته في الصراع مع القطب الأعظم الآخر. والنتيجة أن الدماء الغزيرة التي سالت في معارك التحرير لم تذهب سدى.
لم يكن هناك آنذاك، أي تناقض جدي بين مصالح الحكام العرب، وبين الأهداف المعلنة لحركات التحرر الوطني العربية. كما لم يشكل تقديم الدعم من قبل الحكومات العربية لهذه الحركات، تهديدا حقيقيا لوجودها، نظرا لاسترخاء قبضة الاستعمار التقليدي، ووقوف القطبين العظميين، في موقف غير معترض على استكمال ترتيب المسرح الدولي بما يتسق مع الحقائق التي أفرزتها نتائج الحرب العالمية الثانية. والأمثلة في هذا السياق كثيرة، لكن الأبرز بينها، هو موقف الإتحاد السوفييتي، بزعامة خروشوف من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وموقف الرئيس الأمريكي، أيزنهاور، الذي بدا لا مباليا، تجاه هزيمة حلفائه.
ومع نهاية الستينيات، استكملت معظم أقطار الوطن العربي، استقلالها السياسي، وتوزعت تحالفاتها، أو استتباعها للخارج بشكل مركز، بين السوفييت والأمريكيين. ولم تتبق أرض محتلة في القلب من الوطن العربي غير فلسطين.
هناك أراض أخرى، استمرت تحت الهيمنة التركية والإيرانية والأسبانية والحبشية، مثل لواء الاسكندرونة وعربستان وشمال المغرب ومناطق القرن الإفريقي، حتى يومنا هذا. وتعود بعض أسباب ذلك، إلى عدم رسوخ الانتماء القومي العربي، في بعض هذه المناطق، وإلى الغياب الجدي للعمل الشعبي المقاوم، في مواجهة البلدان التي تحتلها. وربما أسهم تواصل البلدان المحتلة، مع بلد الاحتلال جغرافيا، وتوسيع دائرة الاستيطان منه إلى مناطق احتلاله، في إضعاف حركة المقاومة في تلك البلدان. وعلى كل، فإن الأسباب التي أدت إلى استمرار هذه المناطق تحت قبضة الاحتلال، حتى يومنا هي من القضايا الهامة، التي بحاجة إلى مزيد من التفصيل والتأصيل.
القضية الفلسطينية... المقاومة والأنظمة العربية:
مثل احتلال فلسطين من قبل الصهاينة، ولا يزال قضية القضايا بالنسبة للعرب جميعا. وربما لا يوجد توصيف أكثر دقة لموقع هذه القضية في الوجدان العربي من وصفها بقضية العرب المركزية. وهذا التوصيف الدقيق للقضية الفلسطينية، واعتبارها مهد البداية في كفاح العرب لنيل استحقاقاتهم، لم ينطلق من مواقف وطنية محضة، بل من اعتبارات معيارية.
فتعقيدات هذه القضية وتشابكها، وارتباطاتها الإقليمية والدولية، وتزامن حضورها في الواقع العربي، منذ بدأت الأمة تلمس طريقها القومي، قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، والطابع الاستيطاني لاحتلالها، جعل منها قضية مستعصية على الحل من جهة، وجامعة للعرب من جهة أخرى. وقد رتب تلازم مشروع النهضة العربية الأول بقضية تحرير فلسطين، عليهما مهمات أخرى إضافية. فكما كان التدخل الاستعماري فاضحاً، للحيلولة دون تحقيق وحدة المشرق العربي، من خلال فرض اتفاقية سايكس- بيكو كأمر واقع، كان التدخل أيضا صارخاً في مسألة اغتصاب فلسطين، من خلال فرض وعد بلفور كأمر واقع أيضا. ولذلك سكن في اليقين أن نجاح العرب في حل معضلة أي من المسألتين، يعني بداهة قدرتهم على حل المعضلة الأخرى. ومن هنا أصبحت العلاقة جدلية، ترفض الفصل بينهما.
في محطات الصراع مع الصهاينة، كما هي في الصراع من أجل النهضة والتقدم، تكشف أن العجز عن تحرير فلسطين، هو ذاته العجز عن تحقيق التنمية والتقدم والنهضة. وتكشف أيضا أن الأنظمة العاجزة عن تلبية الحاجات الأساسية لشعوبها، وتوفير مستلزمات النهضة هي بالضرورة عاجزة عن تحرير فلسطين.
نفخت النكبة وتداعياتها، روح الثورة والتمرد على الواقع الفاسد، محرضة على اندلاع الثورات والانقلابات. فأثناء حصار الفالوجة، اكتشف القائد عبد الناصر، أن خلل التوازن في الصراع مع الصهاينة ليس عسكريا فحسب، وأن مقدماته رازحة بعيدا عن جبهات القتال. وأن الحل يكمن في كنس الترسبات الراكدة في الواقع العربي، وبنياته الفوقية، التي أصبحت تشكل عبئا حقيقيا، على مشروعي النهضة والتحرير. ومنذ ذلك التاريخ، أصبح النظام العربي الرسمي، يستمد مشروعيته من ارتباطه بالقضية الفلسطينية. لكن حركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة، رغم بدايات جنينية في الخمسينيات، لم تنطلق بزخم قوي، إلا مع حركة فتح، ولم تأخذ حيزها الحقيقي إلا بعد نكسة حزيران عام 1967.
إن حدث حزيران المزلزل، عام 1967 قد أفرز حقائق جديدة في علاقة النظام العربي الرسمي بالمقاومة. فالمشروع الصهيوني، لم يعد مجرد خطر جاثم على الواقع العربي، يهدد الأمة في مصيرها ومستقبلها، ولكنه بتوسع كيانه الغاصب وتمدده أربعة أضعاف ما كان عليه بعد النكبة، واستيلائه على الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وسيناء وهضبة الجولان أصبح يحتل أراض عربية، من خارج فلسطين.
هذا يعني أن شكل الصراع العربي- الصهيوني قد تغير جذريا، وبشكل خاص فيما أصبح يعرف لاحقا بدول الطوق، أو المواجهة سابقا، من موقف تضامني يتبناه القادة العرب مع أشقائهم الفلسطينيين، إلى اندماج كامل بالصراع، من خلال وجود أراض محتلة لهذه الأقطار في قبضة الكيان الغاصب. وفي هذا السياق، تغيرت الأجندات العربية، من الهدف الإستراتيجي البعيد، رفع شعار تحرير فلسطين، والذي أثبتت حرب حزيران بالدليل عدم قدرة النظام العربي الرسمي على تحقيقه، إلى إزالة آثار العدوان.
وما دام الهدف الرئيس، قد اختزل هكذا من التحرير الشامل، إلى التعامل مع نتائج نكسة 1967، ومع ما يتسق مع "مبادئ الشرعية الدولية" وقراريها 242، 338 التي تعاملت مع الصراع باعتباره نزاعا على الحدود وليس قضية شعب جرى تجريده من وطنه، وصودرت هويته، وحرم من حق تقرير مصيره، فإن إستراتيجية معالجة نتائج النكسة لا تستلزم بالضرورة إسنادا إستراتيجيا للمقاومة. ومن وجهة نظر النظام العربي الرسمي، كما عبر عنه مؤتمر القمة بالخرطوم، الذي عقد بعد النكسة، يمكن أن تتم معالجة نتائج حزيران من خلال جهد دبلوماسي، وتنسيق مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن. ومع تبني القادة العرب لسياستهم الجديدة، فيما يتعلق بالصراع مع الصهاينة، أصبح حضور الفعل المقاوم رديفا تكتيكيا، للموقف الرسمي العربي، الهادف ليس إلى تحرير فلسطين، ولكن لإزالة آثار العدوان.
إن تبني الحلول السياسية، كبديل عن المواجهة العسكرية هو الذي يتيح فهم موقف جميع الأنظمة العربية، المحاذية لفلسطين، من دون استثناء، بما في ذلك الأنظمة التي أنشأت حركات مقاومة فلسطينية تابعة لها، في الحيلولة دون انطلاق المقاومة الفلسطينية من أراضيها، بل ومطاردة الفدائيين الفلسطينيين وملاحقتهم واعتقالهم أثناء تنفيذ عملياتهم العسكرية ضد الصهاينة. إن تلك العمليات من وجهة نظر الأنظمة السياسية، ستزيد من تعقيدات الموقف وتعطل من الوصول إلى حلول سلمية سريعة مع العدو، تضمن استرجاع الأراضي التي احتلت في نكسة حزيران.
في هذا السياق، يلاحظ أن الحكومتين المصرية والسورية، هما الأكثر صرامة، فيما يتعلق بحرمان المقاومين الفلسطينيين، من الانطلاق من أراضيهم لشن عمليات فدائية ضد العدو الصهيوني. ويرجع ذلك بشكل خاص، إلى أن القيادتين المصرية والسورية، عكفتا على استعادة قوتهما العسكرية، مباشرة بعد النكسة. وكانت رؤيتهما للصدام العسكري مع العدو، تركز على دور الجيوش النظامية، وترى في المقاومة، في أحسن الأحوال، رديفا لتلك الجيوش. إن استمرار العمليات الفدائية من أراضيهما ضد الكيان الصهيوني، يعني، من وجهة نظرهما التعجيل في الالتحام العسكري مع العدو، قبل اكتمال الإعداد له، من وجهة النظر المصرية، وقبل تحقيق التوازن الإستراتيجي، كما تراه القيادة السورية.
لم يكن متاحا للعمل الفدائي بعد النكسة، أن يؤدي دوره سوى من الجبهتين الأردنية واللبنانية، وذلك يعود بشكل رئيسي إلى ضعف مقاومة أجهزتهما الأمنية لحضور المقاومة. فتأثيرات النكسة هزت النظام الهاشمي بقوة، بعد سقوط الضفة الغربية، والنزوح الكبير من غرب النهر إلى شرقه. وأيضا بسبب التركيبة الديموغرافية التي ترجح كفة الحضور الفلسطيني بالأردن. يضاف إلى ذلك انهيار المؤسسة العسكرية. وكون المقاومة الفلسطينية هي ما تبقى من جذوة أمل للعرب، في العتمة التي أعقبت حرب حزيران. أما لبنان، فإن غياب الجيش اللبناني، عن مناطق الجبهة، وضعف مؤسسات الدولة، وتعدد مراكز الإصطفافات به، ووجود حاضن قوي للمقاومة الفلسطينية، نتيجة لانتشار المخيمات الفلسطينية فيه، والدعم الذي حازته المقاومة من قبل الحركة الوطنية، قد مكن الفدائيين من القيام بعمليات مسلحة من جنوبه، صوب المستوطنات الصهيونية.
لقد أدى النجاح المطرد للمقاومة الفلسطينية، بقيادة فتح بعد عدوان حزيران، 1967 وخاصة المقاومة البطولية في معركة الكرامة، إلى تأجيج مشاعر الدعم والتأييد للمقاومة من قبل جماهير الشعب العربي في كل مكان. وأصبحت المقاومة عنوانا للمرحلة التي أعقبت النكسة، وبزت مشروعيتها الثورية، مشروعية نظم المواجهة، بما في ذلك الأنظمة العربية التقدمية.
هكذا وجد النظام العربي الرسمي، نفسه أمام واقع جديد، أصاب مشروعيته في مكمن قوتها. فلم تعد قضية فلسطين، ورقة يمكنه العبث بها، أمام تصاعد الفعل المقاوم. فهزيمة الجيوش العربية، أمام الصهاينة في ستة أيام، كشفت سوءات هذا النظام وعرت عجزه، وعدم قدرته على النهوض بمشروع التحرير. وقد جاء موقفه منسجما مع حالة عجزه، حيث اعتبر إستراتيجية تحرير فلسطين، بالكفاح المسلح، هي بالضد مما أقرته القمة العربية بالخرطوم، وتبنته القيادات العربية، باعتماد الحلول السياسية، بديلا عن المواجهة العسكرية، لإزالة آثار عدوان عام 1967.
وحتى حرب الاستنزاف التي مثلت ملحمة بطولية من ملاحم الكفاح العربي، في مواجهة "إسرائيل"، لم تخرج عن إطار التحضير لإزالة آثار العدوان. وتزامنت مع تحركات سياسية، قام بها المبعوث الدولي، جونار يارنج، واختتمت بقبول مشروع روجرز، ومن ثم رحيل القائد جمال عبد الناصر، إلى العالم الآخر.
وأمام هذا الواقع، الذي يهدد بانفلات الأمور عن سيطرة القيادات العربية، وجدت هذه القيادات نفسها أمام أمرين: إما القضاء المبرم على المقاومة الفلسطينية، التي أسهمت في تآكل مشروعية النظام العربي الرسمي، وعرت فشله. وذلك ما حدث فعلا بالأردن، بعد أن تمكن الجيش الأردني من استعادة حضوره، وتم حسم ذلك بعد معارك دامية وشرسة، بأيلول الأسود عام 1970، حيث دمر كامل البنيان الفدائي، وانتهى عمليا وجود حركة المقاومة في الأردن، ولم يعد بإمكانها الانطلاق بعملياتها العسكرية من الضفة الشرقية للنهر إلى ضفته الغربية. أو أن يتم احتواء المقاومة، بوسائل عدة من ضمنها اختراقها بمنظمات تابعة للأنظمة العربية، أو ربط بعض قيادتها بتحالفات خاصة، أو العمل على تفتيتها من الداخل، أو احتوائها من خلال ربط الدعم المادي المقدم لها بتبني سياسات لا تتعارض مع الموقف العربي الرسمي.. وقد تحقق كل ذلك بنسب متفاوتة. وكانت تأثيراته واضحة للعيان، على كل حال.
بعد ضرب المقاومة الفلسطينية بالأردن، لم يتبق أمامها، مواقع آمنة يمكنها الانطلاق منها سوى الأراضي اللبنانية، حيث انتقلت معظم منظمات حركات المقاومة للبنان، وفيه أقامت قواعد عسكرية آمنة لها، أصبحت أنشطتها، بعد توقيع اتفاقية القاهرة عام 1969، بعيدة عن تدخل السلطة اللبنانية، إلى أن قام الكيان الصهيوني بغزو شامل للبنان في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم.
ومع أن المقاومة الفلسطينية فرضت حضورها في لبنان بقوة، لكن ذلك لا يعني أن ذلك الحضور، موضع ترحيب من قبل مختلف مكونات النسيج اللبناني. فالحضور الفلسطيني بلبنان، إثر النكبة مباشرة، والذي تجاوز اﻠـ 100 ألف لاجئ فلسطيني نظر إليه من قبل المؤسسات الانعزالية اليمينية باعتباره تهديدا مباشرا لوجودها، كونه يقوى حركة القومية العربية داخل المجتمع، وفي نفس الوقت يحدث خللا لغير صالحها، في توازن القوى الهش للنظام السياسي المستند على التعددية الطائفية.
لم يختلف موقف الحكومة اللبنانية عن ذلك كثيرا، فقد اتسم هو الآخر بالسلبية تجاه الفلسطينيين وحركتهم الوطنية. ولذلك لم يكن مستغربا رفض الحكومة اللبنانية السماح لجيش التحرير الفلسطيني، بناء قواعد عسكرية له في لبنان، بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، كما رفضت تأسيس معسكرات تدريب للفلسطينيين، بل إن أولئك الذين التحقوا بهذا الجيش لم يسمح لهم بالبقاء في لبنان لأي سبب من الأسباب.
وعندما بدأت المقاومة الفلسطينية، بعد نكسة حزيران 1967 في شن عمليات عسكرية ضد "إسرائيل" عبر الحدود اللبنانية، وحطت أول مجموعة فلسطينية، متخذة مواقع لها على جبل حرمون، هاجمت وحدة من الجيش اللبناني بعض مقاتلي تلك المجموعة وهي في طريق عودتها من تنفيذ عملية داخل فلسطين. وتكررت المصادمات عام 1969، وتوسط الرئيس عبدالناصر، بين المقاومة والحكومة اللبنانية. ونتج عن تلك الوساطة توقيع اتفاقية القاهرة بين الحكومة والمقاومة، أعاد تركيب صيغة العلاقات بين الطرفين. وقد منحت هذه الاتفاقية مشروعية للوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، وسمحت للمقاومة باستخدام مناطق بالجنوب اللبناني للعبور من خلالها إلى فلسطين المحتلة، لشن عملياتها العسكرية ضد قوات الاحتلال. ومع تراجع عمليات المقاومة، عبر الحدود السورية والأردنية، أصبح لبنان المكان الوحيد الذي أمكن للمقاومة بناء قواعد عسكرية على أرضه، تنطلق منها لتنفيذ عملياتها ضد المستوطنات الصهيونية.
ويمكن القول إن المقاومة الفلسطينية تمتعت باستقرار نسبي بلبنان، رغم أن جزءا كبيرا من طاقتها العسكرية قد جرى استهلاكه في الحرب الأهلية عام 1975 التي جرت بين الحركة الوطنية واليمين الانعزالي. وفي لبنان أيضا تمكنت من بناء مؤسساتها، وتأسيس هياكلها السياسية والاجتماعية. وخلال حقبة السبعينيات، حتى الغزو الإسرائيلي لبيروت في صيف 1982، تطورت منظمة التحرير الفلسطينية، لتشمل تنفيذ مهام اجتماعية وثقافية واقتصادية، كالهلال الأحمر، ودور الحضانة المعروفة ببيت الصمود وسوق الغرب. كما تم تقديم خدمات للاجئين الفلسطينيين في مخيمات بيروت وصيدا وطرابلس.
وما يهم في هذه التفاصيل، هو البعد السياسي لتلك التطورات وصلتها بالعلاقة بين النظام العربي الرسمي والمقاومة.
فقد أسهم حضور المقاومة الفلسطينية في لبنان، وتحالفها مع الحركة الوطنية اللبنانية، في تغيير الخارطة السياسية اللبنانية. وفي إحداث خلل كبير في توازنات القوة، في المجتمع اللبناني، التوازنات التي صاحبت مسيرة القطر منذ استقلاله، حتى بروز إفرازات الخامس من حزيران 1967، كما أسهم في تغيير طبيعة الصراع بين لبنان والكيان الصهيوني. فقد انتقل لبنان من بلد كانت جبهته، منذ النكبة، شبه محيدة في المواجهات العسكرية مع الصهاينة، إلى انهماك كامل بالصراع، ومن الأكثر تأثرا بتداعياته، خاصة بعد أن نقلت المقاومة الفلسطينية مقراتها إليه، واتخذت من حي الفاكهاني في بيروت، مركزا رئيسيا.
ومن جهة أخرى، أثر حضور منظمة التحرير الفلسطينية، في لبنان وانشغالها ببناء هياكلها، وتحسين الأوضاع الحياتية للفلسطينيين المقيمين به، في تعزيز توجهاتها التي هدفت إلى تعبئتهم خلفها. وقد أدى ذلك إلى تحويل اهتمام المنظمة عن هدفها الحقيقي، كحركة تحرر وطني. فبدلا عن تطوير تكتيكات جديدة للنهوض بإستراتيجية الكفاح المسلح، أهدرت جهود كبيرة في التعامل مع المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين. وكانت نتيجة ذلك أن بدأت المنظمة في ممارسة دور الدولة داخل الدولة اللبنانية، وابتعدت عن دورها الأساسي كحركة تحرر وطنية. وقد أدى ذلك إلى توسع كبير في الجهاز البيروقراطي للمنظمة لمواجهة المتطلبات الجديدة، ولضمان استمرار المؤسسات الفلسطينية التي بنيت حديثا.
يضاف إلى ذلك، أنه على النقيض من القواعد الأساسية في حرب العصابات، وجدت منظمة التحرير بعد تأسيسها لبنيانها الاقتصادي والعسكري والاجتماعي في لبنان، نفسها مضطرة لحماية تلك المنشآت كقواعد ثابتة للمقاومة الفلسطينية. وبينما يتوقع من قيادة منظمة التحرير، كحركة ثورية أن تخلق قواعد حرب عصابات متحركة، بما يمكنها من مواصلة عملياتها ضد الاحتلال، فإنها بقيت مكانها، وواصلت تلقي الضربات من أعدائها، وامتصاصها باستمرار. وبدلا عن التركيز في العتاد على الأسلحة الخفيفة واعتماد سياسة المواجهة العسكرية سريعة الحركة، فإنها استبدلت ذلك بمدرعات ومدفعية ثقيلة الحركة، وضعت في قواعد ثابتة لحماية المنشآت الثابتة التابعة للمنظمة، وهكذا ساد منطق التريث والصبر، بدلا عن منطق الجرأة والاقتحام.
إن الحقائق الجديدة، إضافة إلى عناصر أخرى، جعلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أكثر ارتباطا بسياسات النظام العربي الرسمي، من أي وقت مضى. فالمؤسسات التي جرى بناؤها بحاجة إلى تمويل مستمر، يأتيها في الغالب من الحكومات العربية، وبشكل خاص من الخليج والجزيرة العربية. وانسيابية هذا التمويل هي رهن للقبول بمواقف سياسية، ترتكز على القبول بقراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 و338. ومن جهة أخرى، فإن منظمة التحرير، بعد تراجع عملياتها العسكرية، وانشغالها بأحداث لبنان، وبعد النهوض الفلسطيني الشعبي بالضفة الغربية، الذي نقل جاذبية الصراع من المخيمات الفلسطينية بالخارج، حيث الهدف المركزي هو التحرير الكامل لفلسطين، من النهر إلى البحر، إلى داخل الأراضي المحتلة عام 1967، وبشكل خاص الضفة الغربية حيث الهدف إزالة الاحتلال عن الأراضي التي احتلت في النكسة. مضافا إلى ذلك الضربات المتتالية من قبل العدو الصهيوني، والأبرز بينها اجتاح آذار عام 1979، وغزو بيروت في صيف عام 1982، جعلها أكثر ميلا للحلول السياسية منها، إلى استراتيجية الكفاح المسلح.
وقد أدت جميع هذه العوامل، مضافا لها طبيعة هيكلية منظمة التحرير ذاتها، والاختراقات الواسعة لبنيتها من قبل الأنظمة العربية، إلى أن تغير المنظمة من أهدافها وإستراتيجياتها بشكل دراماتيكي.
منظمة التحرير الفلسطينية والتسوية:
غيرت منظمة التحرير بسرعة أهدافها، من التأكيد على عروبة فلسطين، وتحريرها من الصهاينة، من النهر إلى البحر، إلى الدولة الديمقراطية التي يتعايش فيها العرب واليهود، متمتعين بحقوق متساوية، إلى سلطة فلسطينية على الأراضي التي احتلها الصهاينة، في حرب حزيران عام 1967، وتحديدا في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأخيرا إلى تبني قيام دولة فلسطينية مستقلة في تلك الأراضي. كما بدلت المنظمة إستراتيجيتها النضالية من الكفاح المسلح كطريق وحيدة للتحرير، إلى المزاوجة بين العمل المسلح والنضال السياسي، وأخيرا، الاقتصار على ما عرف ﺒ"هجوم السلام".
إن قراءة هذه التغيرات الدراماتيكية، لن تكون مكتملة إن لم تأخذ بحسبانها التغيرات التي حدثت في مواقف النظام العربي الرسمي من القضية الفلسطينية.
فالمنظمة ذاتها، في لحظة تأسيسها، هي نتاج لقرار صادر عن مؤتمر قمة عربي، عقد بالقاهرة عام 1964 بدعوة من الرئيس عبد الناصر، لمناقشة المشروع "الإسرائيلي" لتحويل مياه نهر الأردن للأراضي المحتلة، ولاتخاذ الخطوات الضرورية للحيلولة دون تنفيذ هذا المشروع. وفي ذلك المؤتمر توصل الزعماء العرب إلى ضرورة تشكيل كيان سياسي يمثل الفلسطينيين، حيثما وجدوا. وذلك يعني بداهة، أن تشكيل المنظمة لم يكن قرارا فلسطينيا مستقلا، بل جاء ليخدم إستراتيجيات النظام العربي الرسمي في مرحلة تاريخية محددة.
وحتى تعيين أعضاء المجلس الوطني، في المراحل التي سبقت النكسة، كان يتم من خلال رئيس المنظمة المرحوم أحمد الشقيري، وبالتشاور مع جامعة الدول العربية. ولم يتغير ذلك إلا بالدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت بالقاهرة في تموز عام 1968، وتسلمت فيها حركة المقاومة الفلسطينية قيادة منظمة التحرير، وأصبح السيد ياسر عرفات، منذ ذلك الحين حتى وفاته، رئيسا للجنة التنفيذية للمنظمة. وخلالها، شاركت بفعالية حركات المقاومة في اجتماعات المجلس الوطني وفي قيادة منظمة التحرير. ونقلت معها إلى المنظمة توجهاتها الأيديولوجية والسياسية المختلفة والمتباعدة، والتي يجمعها جميعا أنها مثلت التيارات السياسية السائدة في النظام العربي الرسمي. والواقع أن عدم التجانس في المواقف داخل المنظمة، بين حركات المقاومة هو وجه آخر للخلافات العربية- العربية، الرسمية.
إن ذلك يعني بداهة، أن اختلاف المواقف بين حركات المقاومة هو بالنتيجة انعكاس لاختلاف سياسات النظام العربي الرسمي. كما يعني أن اتفاق الأنظمة العربية على إستراتيجية محددة، تجاه الصراع مع الصهاينة، يعني اتفاق الفلسطينيين على هذه الإستراتيجية، بغض النظر عما إذا كانت نتائجها تصب، أو لا تصب في النهاية باتجاه تحقيق هدف التحرير.
وهكذا رأينا التغيرات في اتجاه منظمة التحرير الفلسطينية من تبني التحرير الكامل لفلسطين إلى القبول بدولة فلسطينية، بالضفة الغربية وقطاع غزة، تكون عاصمتها القدس الشريف قد تم طرحه أول مرة في شياط 1974، من قبل ثلاث منظمات من حركات المقاومة للمجلس المركزي للمنظمة، بعد عدة أشهر من حرب تشرين التي مثلت انتقالا إستراتيجيا في الموقف والإستراتيجيات العربية، باتجاه القبول بالتصالح مع الكيان الصهيوني. وخلال العام نفسه، اتخذ القادة العرب في مؤتمر قمتهم الذي عقد بالرباط في تشرين أول عام 1974 قرارا باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وأن المنظمة هي الجهة المخولة بقيادة نضال هذا الشعب نحو الحرية وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة. فإذا بذلك الاعتراف يصبح تنصلا كاملا لهؤلاء القادة من مشروع التحرير، وإذا بوحدانية التمثيل تنتهي، بعد انتفاضة بطولية لأطفال الحجارة، هي من أنصع صفحات النضال الفلسطيني، بتوقيع اتفاق صغير، عرف باتفاق غزة- أريحا، التزم به الجانب الفلسطيني من جانب واحد، وضرب الكيان الصهيوني بجل بنوده عرض الحائط.
ومع توقيع اتفاق أوسلو، تم الخلط بشكل تام ونهائي بين دور منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها حركة تحرر وطني، يقع عليها عبئ استكمال مهمة التحرير، وبين مهام السلطة الفلسطينية، التي خرجت من رحم اتفاق أوسلو.
ومع أن فك التشابك بين المهمتين كان ولا يزال ضرورة ملحة، للتمييز بين السلطة الفلسطينية المفترض فيها إدارة شؤون الفلسطينيين في المناطق التي ينسحب منها المحتل الإسرائيلي، وبين منظمة التحرير كطليعة للثورة الوطنية، لم تستكمل مهماتها بعد، وينبغي أن تتفرغ بالكامل لتلك المهمات، دون ضغوط أو مساومات، ودون الإخلال بالمبررات الأساسية المعلنة التي أدت إلى منحها وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني في كل المواقع والمنابر، وعلى كافة الأصعدة، بقي الخلط قائما، ومتعمدا بين مهمات السلطة، ومهمات التحرير.
كان انتقال النظام العربي الرسمي، نحو التسوية السلمية، بدلا عن المواجهة العسكرية، قد بدأت معالمه تفصح عن ذاتها، منذ عام 1973، بعد حرب تشرين مباشرة. وحتى جبهة الصمود والتصدي التي تشكلت، لم يكن أساس تشكيلها خلافا جوهريا، تجاه الحلول السلمية، ولكنه خلاف على الطريقة التي اختارها الرئيس السادات. ولم يكن التنديد موجها ضد الصلح مع الكيان الصهيوني، ولكن لتبني حلول منفردة مع العدو. بمعنى آخر، كانت "دول الممانعة" تطمح في أن يستخدم العرب كافة الأوراق المتاحة لهم، جماعيا ﻠ "إزالة آثار العدوان"، وليس لمشروع تحرير فلسطين.
وقد شهدنا أن هذه الأنظمة دون استثناء، قد شاركت في مؤتمر مدريد بعد حرب الخليج الثانية، على قاعدة الاعتراف بقراري مجلس الأمن الدولي 242 و 338، وليس على قاعدة حق تقرير المصير للفلسطينيين.
عبرت هذه الحقائق الجديدة عن نفسها بجلاء داخل منظمة التحرير الفلسطينية في الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، الذي عقد في الجزائر، أثناء استعار انتفاضة أطفال الحجارة. فقد كشفت نتيجة تلك الدورة أنه لم يعد هناك محاربون ومسالمون أو مستسلمون في حركة المقاومة. فالكل وافق على البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، المتضمن الاعتراف بضرورة العمل على قيام دولتين على أرض فلسطين التاريخية: دولة إسرائيل في الحدود التي كانت قائمة بها حتى عدوان الخامس من حزيران عام 1967، ودولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشريف وتقوم على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. وذلك هو الأساس الذي استندت عليه مفاوضات أوسلو التي تمخض عنها اتفاق غزة أريحا- أولا.
في مراحل لاحقة، أعلن بشكل صريح تخلي منظمة التحرير الفلسطينية عن الكفاح المسلح، واعتبر ذلك الشعار من الماضي، وجرى تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني ليتسق مع ذلك الإعلان. وكان ذلك التغيير قد جاء استجابة لرفع مشروط لتابو أمريكي ، تعهد فيه مستشار الرئيس الأمريكي نيكسون ووزير خارجيته فيما بعد، للكيان الصهيوني، أثناء فك الارتباط على الجبهتين المصرية والسورية، بأن لا تجري الإدارة الأمريكية أي اتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية، ما لم تعترف بـ "إسرائيل" وتتخلى عن الكفاح المسلح. وكانت الخطوات الأخيرة هي المقدمة لدخول الولايات المتحدة رسميا على خط المصالحة بين قيادة منظمة التحرير، وبين الصهاينة.
من التسوية إلى التواطؤ:
مثل توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين الكيان الصهيوني والحكومة المصرية، نهاية للنظام العربي الرسمي، الذي ساد منذ الاستقلال. وعبر عن تصور جديد لطبيعة الصراع مع الصهاينة، تصور متسق مع الرؤية التي عبر عنها الرئيس المصري أنور السادات، خلاصتها أن حرب تشرين هي أخر الحروب، وأن 99% من أوراق الحل هي بيد صانع القرار الأمريكي، وانتقال التحالف المصري الإستراتيجي، من قوى التحرر العالمي، والإتحاد السوفييتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد مزجت تلك التصورات، كما عبرت عنها معاهدة كامب ديفيد بين ما هو سيادي وما هو تعاقدي، حين ربطت الانسحاب الإسرائيلي من سيناء بالتطبيع، خلافا للقانون الدولي، ولميثاق هيئة الأمم المتحدة.
إضافة إلى ذلك، منحت المعاهدة أرجحية، على مجمل الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعتها الحكومة المصرية مع العرب، بما في ذلك معاهدة الدفاع العربي المشترك، وميثاق الأمن القومي الجماعي، وميثاق جامعة الدول العربية، ومجمل السياقات التي حكمت العمل العربي المشترك. وكانت ارتهانا لإرادة وسيادة مصر، على قرارها، وحرية حركتها. والأسوأ من ذلك بكثير، أنها أسست لاختراقات مستقبلية واسعة، للأمن القومي العربي، تمثلت في عربدة صهيونية غير مسبوقة، على عدد من الأقطار العربية، شملت لبنان والعراق وتونس. ووضعت المقدمات لانهيارات كبيرة، في طليعتها اجتياح بيروت عام 1982، والعدوان الأمريكي على العراق عام 1990، واحتلاله عام 2003. وعبدت الطريق لالتحاق الأردن وقيادة منظمة التحرير لاحقا بقطار التسوية، والتوصل إلى معاهدة وادي عربة بين الكيان الصهيوني والأردن، واتفاقيات أوسلو، بين الصهاينة وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
وقد تركت معاهدة كامب ديفيد بصماتها ثقيلة على النضال الفلسطيني، وعلى موقف النظام العربي الرسمي من هذا النضال. فقبل مرور ثلاث سنوات على تلك المعاهدة، كان القادة العرب فد تبنوا بالإجماع خطة ولي العهد السعودي آنذاك، فهد بن عبد العزيز للسلام في الشرق الأوسط، في مؤتمر القمة الذي عقد بمدينة فاس عام 1982. وأهم ما في تلك الخطة هي تبني القادة العرب ضمنيا حلا سياسيا يقضي بقيام دولتين مستقلتين على أرض فلسطين التاريخية، والاعتراف بمشروعية وجود دولة "إسرائيل". وقد ورد ذلك بوضوح في المادة السابعة من مشروع القمة العربية، التي أكدت حق جميع دول المنطقة في العيش بسلام ضمن حدود معترف بها.
وقد هيأت تلك المعاهدة البيئة المناسبة للتحولات الدراماتيكية التي عصفت بعموم المنطقة، ولا زالت تأثيراتها تطبق بقوة على الوطن العربي حتى يومنا هذا.
فالتضامن العربي، الذي شهده مؤتمر قمة بغداد لإيقاف حالة التداعي، والتصدي لنتائج كامب ديفيد سرعان ما انهار. ومع بداية الثمانينات، بدأت نذر الحرب بين إيران والعراق، تفصح عن ذاتها، في شكل اشتباكات واحتلالات إيرانية للمخافر والمراكز العراقية في سيف سعد وزين القوس وخانقين وزرباطة... ومراكز أخرى. وما أن أطل شهر أيلول عام 1980 حتى تحولت تلك المناوشات إلى حرب طاحنة بين الجيشين العراقي والإيراني، هي أطول حرب تقليدية في تاريخ العرب الحديث. وكانت الخسائر فلكية في الأرواح والمعدات. وأسوأ ما في تلك الحرب أنها أسهمت في تعدد الخنادق وتباعد المسافات، بين القيادات العربية، التي من المفترض بها أن تكرس طاقاتها لوقف حالة الانهيار.
وخلال فترة الحرب العراقية الإيرانية، ضاعف الكيان الصهيوني من عربدته، وأعلن مد بُعده الإستراتيجي ليصل إلى باكستان شرقا، والأطلسي غربا، وتركيا شمالا، وأوغندا جنوبا. وامتدت ذراعه العسكرية، لتشمل قصف مفاعل تموز في بغداد، وغزو بيروت، وضرب مقر منظمة التحرير في تونس. وخلق جيب عميل في جنوب لبنان، تكفلت المقاومة البطولية للبنانيين، لاحقا بالقضاء عليه، وتحرير الجنوب، باستثناء مزارع شبعا.
وخلال اجتياح لبنان، عام 1982 كما في التطورات التي أعقبت ذلك حتى يومنا هذا، انتقل النظام العربي رويدا رويدا، من العجز ونشدان السلامة، والسعي نحو تسوية مع العدو، إلى التواطؤ مع مشاريعه، كما هو الحال في العدوان على العراق عام 1990 واحتلاله من أراض عربية عام 2003، وإدانة صمود حركة المقاومة اللبنانية، بقيادة حزب الله في تموز عام 2006، وأيضا خلال حرب الإبادة على قطاع غزة في نهاية عام 2008 وبداية عام 2009. وقد شمل التواطؤ تقديم الدعم اللوجستي للعدوان الأمريكي على العراق، ومحاصرة المقاومة اللبنانية، إعلاميا وماديا، وإغلاق معبر رفح أثناء حرب الإبادة على قطاع غزة.
وقد جاءت مواقف النظام العربي الرسمي هذه، متسقة مع مقولة زائفة حاول الترويج لها الإعلام العربي، خلال الأربعة عقود المنصرمة، خلاصتها أن العرب عاجزون عن مواجهة العدو عسكريا، بسبب الخلل في التوازن الإستراتيجي، وأن ذلك ألجأهم للخضوع لقرارات "الشرعية الدولية". وقد تصاعد الترويج لهذه المقولة بعد أحداث 11 أيلول 2001، بالولايات المتحدة الأمريكية، وإعلان إدارتها ما أطلقت عليه ﺒ"الحرب على الإرهاب"، وشمول تلك الحرب المقاومات العربية في فلسطين ولبنان والعراق.
إن المقاومة العربية، ضمن حالة الاستتباع، التي طبعت مسلك النظام العربي الرسمي أصبحت تشكل عبئا حقيقيا على هذه الأنظمة. فهي من جهة كشفت سوءاتها، وحفرت شرخا عميقا، في مشروعيتها، وعرت زيف مقولاتها حول افتقار الأمة القدرة على التصدي للعدوان. ووضعتها، بشكل لا لبس فيه، في الخنادق المعادية للأمة، ولتطلعاتها في الكرامة وحق تقرير المصير. لقد كشف انتصار المقاومة اللبنانية، وصمود الفلسطينيين واستبسالهم، واستمرار انتفاضة الأقصى، وهزيمة المشروع الكوني الأمريكي، نتيجة للضربات الماحقة التي ألحقتها المقاومة العراقية الباسلة، أن الأمة ليس بإمكانها مواجهة المشاريع الإمبريالية الأمريكية والصهيونية فحسب، بل أيضا هزيمة تلك المشاريع وقبرها.
ولم يعد في جعبة هذه الأنظمة من توصيفات سلبية للفعل المقاوم، بعد أن أثبت قدرته على الصمود وتحقيق النصر، سوى وصمه بالمغامرة، وأن كلفته في الأرواح وتدمير البنيات التحتية عالية جدا. وهي توصيفات مخادعة بكل المقاييس، إذ لم يشهد العالم بأسره، حركة تحرر وطني تمكنت من تحقيق النصر، دون تقديم التضحيات الجسام.
جرت تلك التوصيفات، للمقاومة اللبنانية، وصمودها البطولي في حرب تموز عام 2006، حيث اعتبر أسر الجنود الإسرائيليين الثلاثة، سببا في تلك الحرب، وكأن الصهاينة، في اعتداءاتهم المتكررة على الأمة، كانوا بحاجة دائما إلى تبريرات منطقية لانتهاك السيادة والحقوق العربية. فقد كان لبنان دائما في دائرة استهداف عسكري صهيوني، لم ينقطع منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي، حينما كانت القرى الحدودية اللبنانية تتعرض باستمرار إلى اعتداءات إسرائيلية، أدت في إحدى المرات عام 1970 إلى تهجير نحو خمسين ألف لبناني من قراهم في الجنوب. وكانت المقاومة اللبنانية، هي التي حررت جنوب لبنان، بقوة السلاح، من الاحتلال الإسرائيلي - ما عدا مزارع شبعا غير المأهولة- في أيار عام 2000، بعد احتلال دام 22 عاما للجنوب اللبناني.
وتكرر ذلك بحق العراق، منذ نهاية الثمانينات، حيث اعتبر امتلاك العراق، لقوة عسكرية، مبررا كافيا لحصاره، والعدوان عليه، ليس فقط أمام مسمع ومرأى النظام العربي الرسمي، ولكن بضلوعه المباشر في ذلك العدوان. وبعد عدوان 1990 على العراق، جرى حصار دولي جائر على العراق، كان النظام العربي الرسمي، هو الأكثر التزاما وتقيدا به، من بين دول العالم. واحتل العراق، بمباركة عدد من الحكومات العربية، وصمت عاجز من البقية. وانفجرت المقاومة الأسطورية في وجه الاحتلال الأمريكي للعراق، بعد أقل من 24 ساعة على احتلال بغداد. وحتى يومنا هذا بقيت المقاومة محاصرة من النظام العربي الرسمي، ولم يجرأ نظام عربي رسمي واحد على الإفصاح عن دعمه لها، خشية من الاتهام بمساندة الإرهاب.
وللأسف فإن تفتيت العراق، ومصادرته كيانا وهوية، وفرض عملية سياسية من قبل قوات الاحتلال تقوم على أساس القسمة الطائفية والإثنية، وتهدد الأمن القومي العربي بأسره، لم تجعل النظام العربي الرسمي يحرك ساكنا. بل إننا نلاحظ مؤخرا، اعترافه بالحكومة العميلة، المعينة من قبل الاحتلال، والقبول بها حكومة أمر واقع. وحضور الطالباني، الذي قاد مع البرزاني حركة انفصال الشمال العراقي عن المركز، لأكثر من خمسة عقود، كرئيس لجمهورية "العراق الجديد" في اجتماعات القمم العربية. واستقبال زعيم حزب طائفي، هو حزب الدعوة، نوري المالكي في العواصم العربية، باعتباره رئيسا للحكومة المعينة من إدارة الاحتلال الأمريكي.
وربما تفردت المقاومة العراقية، بكونها المقاومة التي لم تحظ حتى على المستوى الشعبي، وضمن النخب العربية، بالتأييد والدعم المطلوبين لتمكينها من تحقيق أهدافها في تحرير العراق. يحدث ذلك، على الرغم من أن هذه المقاومة، هي الأسرع في مواجهتها لتحديات الاحتلال، وتعطيلها للمشروع الكوني الأمريكي للقرن الواحد العشرين، المعبر عنه بالشرق الأوسط الجديد، حيث اعتبر العراق المحطة الأولى، ونقطة الانطلاق، في مخاض ولادته.
لقد تعرضت المقاومة العراقية، لظلم كبير من قبل النظام العربي الرسمي، لا تبرؤ حتى القوى القومية والوطنية العربية، وأجهزة إعلامها من الضلوع فيه. ويمكن القول إن هذه المقاومة حرمت حتى هذه اللحظة من عمق استراتيجي عربي، بسبب افتقارها للدعم والاحتضان من قبل النخب والشعوب العربية، على السواء. وربما يعود ذلك، في جانب كبير منه، إلى الخلط في الأوراق، وحساسية كثير من القوى القومية والوطنية من حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان يقود السلطة حتى عشية الاحتلال، وتراكمات الماضي، وأيضا بسبب ارتباك الموقف حيال دور إيران، الذي من جهة، يسند المقاومتين: اللبنانية، ممثلة في حزب الله والفلسطينية، ممثلة بشكل خاص في حركتي حماس والجهاد. ومن جهة أخرى، ينسق مع الاحتلال الأمريكي في العراق، ويتدخل بقوة في الشؤون الداخلية للعراق، ويسهم في تفتيته، ودعم وتوجيه الميليشيات الطائفية، وبعض القوى المتحالفة مع الاحتلال.
إن عجز النظام العربي الرسمي، وتواطئه تجاه احتلال العراق، وارتباك مواقف بعض القوى القومية والوطنية تجاه الدور الإيراني غير الإيجابي في العراق، لم يقتصر على فقط على الأوضاع بلاد ما ببين النهرين، ولكنه شمل أيضا الجزر العربية، الإماراتية: أبو موسى وطنب الصغري وطنب الكبرى، التي مضى على احتلال إيران لها ما يقرب الثلاثين، ولم تتخذ الدول العربية أي موقف جماعي تجاه تأكيد عروبتها. وينسحب ذلك الموقف أيضا، على الموقف من حركة تحرير الأحواز، الحركة المغدورة، من قبل النظام العربي الرسمي، والقوى القومية مجتمعين. فالنظام العربي الرسمي، لا يكتفي بعدم تقديم الدعم للمناضلين العرب في إقليم المحمرة، ولكنه يقوم باعتقال هؤلاء المناضلين، ويسلمهم إلى السلطات الإيرانية، لتقوم بإعدامهم. وتشارك بعض القوى القومية، في مؤامرة الصمت على ما يجري، تحت ذريعة أن تبني أي موقف واضح وصريح، إن فيما يتعلق بالعراق، أو بالجزر الإماراتية، أو بالأوضاع في إقليم المحمرة العربي، من شأنه أن يضر بالكفاح العربي، وبالقضية الفلسطينية، ويجعل الأمة تفقد حليفا استراتيجيا معها في صراعها مع الصهاينة.
في تحديد سلم الأولويات:
إن هذه المواقف تطرح بحدة على القوميين العرب قضية تحديد سلم الأولويات في المواجهات العربية. صحيح أن ليس من مصلحة الأمة تفجير صراعات مع جيرانها، خاصة أولئك الذين يساندون كفاحها في فلسطين، وأن روابط الدين والجغرافيا والتاريخ، ينبغي وضعها بعين الاعتبار، وأن ليس من مصلحة الأمة تبديد طاقاتها، وهي تناضل ضد الصهاينة، وتجمع على أن فلسطين هي قضيتها المركزية. لكن ذلك ينبغي في كل الأحوال، أن لا يغيب الوعي بطبيعة المشروع العدواني الصهيوني. فقدسية قضية فلسطين، التي يجمع العرب عليها، لا تنبع من الكرمة أو شجرة الزيتون الفلسطينية، بل من مخاطر المشروع الصهيوني على الأمن القومي. وقد أريد للكيان الغاصب أن يكون إسفينا في خاصرة الأمة، يحول دون وحدتها وتقدمها. وكان على العرب أن يقاوموا هذا المشروع، حتى يسود السلام. القياس إذن ينبغي أن يتوجه إلى خطورة المشاريع العدوانية، على الأمة العربية، وليس إلى حاضنها، أياً يكن هذا الحاضن، وبغض النظر عن الشعارات التي يرفعها.
الحقيقة الثانية، هي أن الاحتلال الاستيطاني ليس شيئا، يمكن تحييده والانتظار حتى تتوفر ظروف مواتية لصالح الأمة تتيح لها المطالبة بحقوقها. هناك على سبيل المثال، مناطق عربية، تضم ملايين من البشر، لم يكتف المحتل بالاستيلاء على الأرض، بل سعى إلى إلغاء هويتها العربية، من خلال تشجيع مستوطنين من المركز للهجرة إلى الأراضي المحتلة. وبالقدر الذي يتقادم فيه الاحتلال، بالقدر الذي يتمكن فيه المحتل من تدمير الهوية القومية، من خلال إغراق هذه المناطق بالمستوطنين وإضعاف مقاومة الشعب المحتل. ولن يكون بالإمكان مستقبلا الحديث عن تحرير لتلك الأراضي بعد مسخ هويتها، والقضاء على مقاوماتها. أمام هذا الواقع تبدو الدعوة لتحديد الأولويات تجاه الاحتلالات للأرض العربية، وقصرها على الصراع مع الصهاينة، وتحرير فلسطين، حتى وإن كانت بحسن نية، كأنها دعوة للتفريط في الحقوق القومية، وليست تأجيلا للمطالبة بها.
الحقيقة الثالثة، هي أن دعوة تحديد سلم الأولويات، بالطريقة التي طرحت، تفتقر إلى القراءة الواعية لجدل الصراع ووحدته، بالأرض العربية. فالمشروع الأمريكي للقرن الواحد والعشرين، على سبيل المثال، ينبغي النظر له بشمولية. لقد اعتبر هذا المشروع وطننا العربي، مجال اختباره. وأعلن بوضوح أن هدفه هو إعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة لتكون منسجمة مع استراتيجية البلقنة التي يجري تنفيذها تحت لافتة الإقرار بحقوق الأقليات الإثنية والطائفية، ومبادئ حقوق الإنسان. وكانت التصريحات المتتالية لبعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية، وفي مقدمتهم الرئيس بوش ورامسفيلد وكونداليزا رايس ورتشارد بيرل.. وبعض التقارير الصادرة عن معاهد استراتيجية ومراكز أبحاث، وصحف رئيسية كالنيويورك تايمز والواشنطن بوست قد أفصحت عن بعض تفاصيل تلك الأجندة، وأبرزت خرائط جديدة قيل إنها تشكل صياغات مقترحة للخارطة الجيوسياسية للمشرق العربي التي يجري العمل على تنفيذها. هدف هذه الأجندة هي استبدال النظام الإقليمي العربي الذي ساد منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، بآخر شرق أوسطي، يستبدل الدولة القطرية بكانتونات وفدراليات على أسس القسمة الطائفية والإثنية. ويكون النظام الشرق أوسطي الجديد، بقيادة أمريكية، سلطان القوة فيه بيد الكيان الصهيوني.
لم يعد هذا المشروع الأمريكي مجرد تنظير، بعد حوادث 11 أيلول، عام 2001. فقد بدأت الإدارة الأمريكية محاولة فرضه بالقوة على أرض الواقع، بعد احتلالها لأفغانستان. وبالنسبة للمنطقة العربية، اعتبر احتلال العراق هو البوابة التي ينطلق منها هذا المشروع، ليهدد الأمن القومي في بقية البلدان العربية. وتتابعت محطات التنفيذ، فشملت بعد العراق، فلسطين ولبنان والسودان. وكان مشروع الاستراتيجية الكبرى الصادر عن مؤسسة (راند) الأمريكية هو الأبرز في قائمة تلك المشاريع. لكنها جميعا تعثرت أمام ضربات المقاومين العراقيين، وصمود المقاومتين اللبنانية والفلسطينية.
النتيجة التي نخلص إليها هي أن المشاريع الاستعمارية ليست موجهة نحو منطقة بعينها، ولكنها تستهدف الأمة العربية بأسرها. هكذا كان المشروع الصهيوني، ميدان المواجهة فيه أرض فلسطين، ولكنه يستهدف الأمة العربية بأسرها. وكذلك الأمر عندما يجري تهديد للأمن القومي العربي، في أحد أجنحة الأمة، فإن ذلك يستهدف في نتائجه الأمن القومي العربي بأسره. العدو لا يتعامل معنا فرادى، حتى وإن بدا الاستهداف كذلك. وعلينا نحن بدورنا التعامل مع المخاطر التي تحدق بالأمة بنظرة شمولية، وألا يغيب عنا، في كل الظروف جدل الصراع، ووحدته، وترابط أدواته.
ومن هذا المنطلق، يصبح من غير المنطقي النظر إلى الفعل المقاوم في لبنان بمعز |