المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE
المؤتمر السادس والعشرون
2 – 3 حزيران/يونيو 2015
بيروت - لبنان
التوزيع: محدود
الرقم: م ق ع 26/وثائق 5
التنمية المستقلّة والعدالة الاجتماعية**
د. عبد القادر النيال*
* باحث اقتصادي، عضو المؤتمر القومي العربي.
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
*** لا يجوز نشر هذه الورقة كلاً أو جزءاً إلا بموافقة تحريرية من إدارة المؤتمر.
التنمية المستقلّة والعدالة الاجتماعية
د. عبد القادر النيال
(1)
تشكّل التنمية المستقلّة إحدى مقومات المشروع النهضوي العربي، وذلك إلى جانب الوحدة العربية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتجدّد الحضاري والاستقلال الوطني.
وبالرغم من المعوقات التي تواجهها في عالم يحكمه الاعتماد المتبادل غير المتكافئ بين الدول المتقدّمة صناعياً من جهة والدول النامية من جهة ثانية، وتسوده نزعة ليبرالية مفرطة تطلق العنان لقوى السوق دون ضوابط، وتهيمن عليه مؤسسات مالية وتجارية دولية وشركات عابرة للحدود، تظلّ التنمية المستقلّة السبيل الأنجع للتخلص من التخلف والتبعية على نحو شامل وإنساني.
وتؤكّد تجارب البلدان النامية أن الانفتاح غير المحسوب على العالم الخارجي، واعتماد وصفات البنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي يفضي إلى نمو مشوّه وغير متوازن يعتمد على القطاعات غير الإنتاجية ويعمّق التبعية للاقتصاد الرأسمالي العالمي، ويغفل الأبعاد الاجتماعية والإنسانية للتنمية.
وغني عن القول أن استقلالية التنمية هي مسألة نسبية، بمعنى أن درجة تحققها تتفاوت من بلد لآخر تبعاً لعوامل عديدة لعل من أهمها حجم البلد وكثرة موارده وتنوعها، فالتنمية المستقلّة لا تعني الانعزال عن العالم الخارجي، بل تأسيس العلاقات الاقتصادية مع العالم الخارجي انطلاقاً من المصالح الوطنية، وهي لا تعني الانغلاق على الذات بل الاعتماد على المقدرات والطاقات والموارد الوطنية وكفاءة استخدامها وتنميتها من خلال رفع قدرات رأس المال البشري وتوطين التقانات المتطورة وزيادة معدلات الادخار لتمويل البرامج والمشاريع التنموية.
وتتميّز التنمية المستقلّة بشموليتها، وهي لا تقف عند حدود إشباع الحاجات المادية الأساسية للسكان، بل تتوسع في أهدافها التنموية إلى إقامة حياة سياسية تتيح للمواطنين على قدم المساواة ممارسة حقوقهم السياسية والمشاركة في تقرير مستقبلهم.
وخلافاً للنهج الليبرالي، تولي التنمية المستقلّة الشاملة اهتماماً كبيراً بالعدالة الاجتماعية، وذلك من خلال تأمين التوزيع العادل للدخل والثروة والحدّ من الفروقات الطبقية للحفاظ على تماسك النسيج الوطني والاستقرار الاجتماعي.
كما يحظى الأمن القومي بمكانة هامة بالتنمية المستقلّة الشاملة. إذ تحرص التنمية المستقلّة الشاملة على استقلالية القرار الاقتصادي الوطني وتحريره من التبعية للخارج وتركّز على الحدّ من انكشاف الاقتصاد الوطني على الخارج والعمل على بناء عناصر القوة الاقتصادية باعتبارها أحد مقدمات الأمن القومي.
ويستدعي تحقيق تنمية مستقلّة شاملة قيام الدولة بدور قيادي فاعل ومؤثر في الحياة الاقتصادية ويتراوح هذا الدور بين التوجيه والتحفيز وبين التدخل المباشر في الإنتاج والاستثمار عبر مؤسساتها الاقتصادية.
ولا يعني تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي إلغاء دور آليات السوق، بل يساعد على زيادة كفاءتها وتصويب انحرافاتها، فالعلاقة بين تدخل الدولة وآليات السوق هي علاقات تكاملية وليست تصادمية، مما يتطلب إيجاد نوع من التنسيق بين السوق وآلياته من ناحية، وبين الدولة ومؤسساتها من ناحية ثانية.
بيد أن أهمية تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي لا تقتصر على تصويب أداء آليات السوق فحسب، بل تمتد إلى معالجة قضايا بنيوية إستراتيجية تتعلق بالادخار والاستثمار والتطوّر التقاني واستدامة الثروات الطبيعية والحفاظ على البيئة والعدالة الاجتماعية. إذ أن هذه القضايا تتعلق بخيارات يتعين على الدولة الموازنة بينها في ضوء رؤيتها لمستقبل الاقتصاد والمجتمع واتخاذ قرارات إستراتيجية مستقبلية بشأنها. وتُعكس هذه القرارات في خطط إنمائية قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل ترتكز على دراسات استشرافية مستقبلية.
ولعل من نافل القول أن تحقيق تنمية مستقلّة شاملة يتطلب وجود فضاء اقتصادي واسع يتيح تأمين وفورات الحجم. فالاقتصادات الصغيرة الحجم تواجه صعوبات شتى تحدّ من إمكانية تطبيق كامل أبعاد التنمية المستقلّة الشاملة، من هنا تأتي أهمية العمل الاقتصادي العربي المشترك، فالاقتصادات العربية بما تمتلك من طاقات وإمكانيات وموارد مالية وطبيعية وأسواق وثروات بشرية توفر شروطاً ملائمة لنجاح التنمية المستقلّة الشاملة.
(2)
وثمّة علاقة وثيقة بين التنمية المستقلّة الشاملة وبين العدالة الاجتماعية، فالتنمية المستقلّة الشاملة تتطلب التوزيع العادل للثروة والدخل لتنمية الاقتصاد وتعزيز قدرة المجتمع على مواجهة الأزمات والمحن ويزيد من تماسك النسيج الاجتماعي يقوي الانتماء إلى الوطن والأمّة.
ويلاحظ ترابط وثيق بين العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي، إذ أظهرت نتائج بعض الدراسات الامبريقية التي طبقت على عدد من البلدان النامية وجود علاقة بين سوء توزيع الدخل والثروة من ناحية، والنمو الاقتصادي من ناحية ثانية على المدى البعيد.
من خلال متابعتها للعلاقة بين سوء توزيع الثروة للدخل من ناحية والنمو الاقتصادي من ناحية ثانية في أكثر من خمسين دولة خلال فترات تراوحت بين (15 – 20) سنة، وجد بيرسون وتابيليني أن زيادة نصيب الخمس الأغنى من السكان بمقدار 0.07 بمقياس تفاوت الدخل يؤدي إلى تراجع في متوسط النمو الاقتصادي بنحو 0.5 بالمائة، كما استخلص اليسينا ورود ريك من خلال دراستهما للعلاقة بين نمط توزيع الأراضي الزراعية ونمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 1960 – 1985 في نحو 70 دولة أن ارتفاع مستوى التفاوت في توزيع ملكية الأراضي الزراعية بمقدار 1 بالمئة يؤدي إلى تخفيض معدّل نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 0.8 بالمئة سنوياً (الآثار الاقتصادية للفقر محمد فايز فرحات – الفقر في الوطن العربي، تحرير أحمد السيد النجار، مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية للأهرام 2005 (ص 212)).
كذلك أوضح الباحث محمد فايز فرحات في بحثه الآثار الاقتصادية للفقر (الفقر في الوطن العربي، مرجع سابق)، أنه على الرغم من التشابه الكبير بين الاقتصاد الكوري والاقتصاد الفلبيني لجهة معظم المؤشرات الاقتصادية خلال عقد الستينيات من القرن الماضي حقق الاقتصاد الكوري معدل نمو سنوي بالمتوسط 7 بالمئة خلال عقدي السبعينيات والثمانيات مع متوسط معدل نمو سنوي للاقتصاد الفلبيني 2 بالمئة خلال الفترة ذاتها، وذلك بسبب تفاوت نمط توزيع الثروة والدخول بين البلدين.
وشدّد الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيفلتز الذي شغل منصب النائب الأول لرئيس البنك الدولي خلال الفترة 1997 – 2000 والحائز على جائزة نوبل الاقتصادية عام 2001 في كتابه خيبات العولمة (دار الفارابي 2003) أنه لكي يعمل الاقتصاد بشكل جيد لا بدّ من وجود تماسك اجتماعي، وأشار إلى ضرورة ضمان تقاسم أكثر عدالة لثمار التنمية، مضيفاً أن الإنصاف يقتضي أن يشارك الفقراء في المكاسب حين يزدهر المجتمع وأن يشارك الأغنياء في الآلام حين يقع المجتمع في أزمة.
من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية يتعين القضاء على الفقر الذي يعتبره امارتيا سن حرماناً من القدرات الأساسية التي تعني الحريات الأساسية الضرورية للإنسان ليعيش الحياة التي يحق له أن يحياها.
ويتطلب القضاء على الفقر توفير الاحتياجات الأساسية لجميع الأفراد وتمكين الفقراء من الحصول على الخدمات العامة (الصحة، التعليم، المرافق) على نحو مجاني، وتوسيع مشاركة الأفراد في الحياة الاقتصادية والسياسية، وتوفير فرص متساوية لحصولهم على الأصول (الأرض والمسكن) وفرص العمل، بمعنى آخر، إن الأفراد الذين يمتلكون نفس القدرات والمهارات يجب أن يتمتعوا بفرص متساوية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية السياسية.
كما يتطلب القضاء على الفقر ضمان التوزيع العادل للحريات الأساسية والحقوق الأساسية، ومكافحة الفساد الذي يعتبر أحد أخطر الآليات الاجتماعية التي تؤدي إلى تفاقم الفقر الذي يؤدي بدوره إلى إقصاء وتهميش جزء من قوى المجتمع، ويحول دون حشد الطاقات لتحقيق التنمية المستقلّة الشاملة.
(3)
انقضى على إقرار المشروع النهضوي العربي (نهاية آب/أغسطس 2001) ما يقارب 14 عاماً، وعلى إطلاقه أكثر من أربعة أعوام (22/2/2010)، وما تزال الاقتصادات العربية تتعثر بخطوات في الاتجاه المعاكس لمنطلقات التنمية المستقلّة الشاملة والعدالة الاجتماعية، فدرجة اعتمادها على النفط تتزايد، ما كرّس بنى اقتصادية مشوّهة لم تساعدها على التعافي من أعراض الضعف. وأدّى الاعتماد المفرط على النفط إلى حدوث تقلبات في نمو الاقتصادات العربية، فالنمو المرتفع في حقبة السبعينات، ثم الركود الاقتصادي في الثمانينيات، فالنمو الاستثنائي في مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين هو في حقيقة الأمر انعكاس مباشر للتقلبات في سوق النفط.
واتجهت البلدان العربية، المنتجة للنفط، ولاسيّما الخليجية، إلى توظيف جزء هام من فوائضها النفطية في استثمارات أجنبية واحتياطيات خارجية، ولاسيّما سندات الخزينة الأمريكية، بالإضافة إلى استثمارات في قطاع المال والإعلام وتجارة التجزئة والسلع الفاخرة والفنادق والأنشطة الترفيهية، مما أدى إلى تعميق تبعية اقتصاداتها للخارج.
وقاد تزايد تبعية الاقتصادات العربية للخارج إلى خسارة أموال طائلة جراء الأزمة المالية الاقتصادية العالمية عام 2008، إذ قدرت الخسائر الأولية العربية بما يزيد عن 2500 مليار دولار، وفقدت الدول الخليجية نحو 29 – 30 في المائة من استثماراتها، وتجاوزت خسائر الإمارات العربية وحدها 300 مليون درهم خليجي، وقدرت الخسائر التي تكبدتها شركة ممتلكات البحرينية وهي صندوق الثروة السيادية في البحرين بنحو 708 مليون دولار.
وأفاد المدير العام لمنظمة العمل العربية آنذاك أن عدد العمال المتوقع تسريحهم بسبب الأزمة المالية في العالم العربي يصل إلى نحو 5 ملايين مشتغل، كما أشار كاتب كويتي متخصص في الشؤون الاقتصادية (عامر دياب التميمي) إلى أن الأزمة المالية عام 2008 قد كشفت أن أوضاع القطاع الخاص وشركاته في البلدان العربية ليست على ما يرام، فكثير من المؤسسات والشركات الخاصة مثقل بالديون التي باتت خدمتها صعبة ضمن شروط الاتفاقيات السابقة.
كما أفضى النهج الليبرالي المفرط المعتمد إلى تفاقم سوء توزيع الدخل الثروة، إذ يتضح من قائمة فوربس الأمريكية عن أثرياء العالم أن ثروة الأثرياء العرب الأغنى، وعددهم 36، قد بلغت نحو 118 بليون دولار، ويتوزع الأثرياء العرب الأغنى إلى (8) سعوديين، و (8) لبنانيين، و (7) مصريين، و (5) كويتيين، و (4) إماراتيين، إضافة إلى بليونير واحد من كل السودان والعراق وسوريا والأردن، (الحياة 9/3/2012).
في المقابل يعيش نحو 65 مليون عربي في حالة فقر، ويبلغ معدّل البطالة بين الشباب في العالم العربي ما يقرب من ضعف ما هو عليه في العالم بأسره، ويستفاد من إحصاءات منظمة العمل الدولية وجود (13) مليون طفل عامل في الدول العربية يجبرون على القيام بأعباء لا تتماشى فيه بنيتهم الجسدية، كما تجاوزت نسبة الفقراء 40 بالمئة في الدول العربية الأقل نمواً.
ولا تتوفر الخدمات الصحية لكل المواطنين العرب، فالأنظمة غالباً مقيدة بالعجز البيروقراطي وتدني القدرات المهنية ونقص التمويل، من ناحية أخرى تشتد الأخطار الصحية جراء انتشار أمراض معدية جديدة، وحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة المشترك لمكافحة الأيدز وصل عدد المصابين في البلدان العربية بنقص المناعة المكتسبة لعامي 2007 إلى 435 ألف مصاب.
ويحذر تقرير المنتدى العربي للبيئة التنمية الصادر أواخر عام 2011، من أن العرب سيواجهون بحلول عام 2015، وضعية ندرة المياه الحادة، كما أن عشرة دول عربية مدرجة على لائحة الدول التسع وعشرين الأفقر في المياه في العالم (السفير 4/11/2010).
وتراجعت مساهمة العمالة العربية في سوق العمل الخليجي من 70 في المائة عام 1994، إلى أقل من 23 في المائة قبل الأحداث، وذلك جراء تدفق العمالة الأجنبية، ولاسيّما الآسيوية، إذ بلغ عدد الوافدين المقيمين في السعودية وحدها ما يقارب 8.4 مليون نسمة عام 2010 يمثلون نحو 31.03 في المائة من إجمالي السكان في المملكة العربية السعودية (الشرق الأوسط 7/7/2000).
لعل أخطر إفرازات المسار الذي سلكته الاقتصادات العربية، لاسيّما الخليجية، هو تشابك مصالح النخب الحاكمة العربية مع مصالح القوى الرأسمالية العالمية، فعوائد الاستثمارات الخليجية في الولايات المتحدة وأوروبا تتوقف إلى حد بعيد على ازدهار وتوسع النظام الرأسمالي العالمي، ما جعل النخب الخليجية الحاكمة تنظر إلى مصالحها من خلال مصالح المراكز الرئيسية للنظام الرأسمالي العالمي، لذلك نجد أن السياسة الخليجية فيما يتعلق بالإنتاج والأسعار للنفط تتماشى مع مصالح واستراتيجيات المراكز الرئيسية للنظام الرأسمالي، باعتبار أن مصالح النخب الخليجية الحاكمة تندرج ضمن مصالح تلك المراكز.
هذه العلاقة الاستراتيجية على الصعيد الاقتصادي تنسحب على الصعيد السياسي أيضاً، إذ نجد توافقاً في الأهداف من القضايا الإقليمية والدولية والأساسية في الغالب بين الدول الخليجية والولايات المتحدة وأوروبا، وإن اختلفت السبل والوسائل في بعض الأحيان. في ضوء هذه العلاقة الاستراتيجية الاقتصادية السياسية تبدو مسألة استقلال القرار الاقتصادي لا معنى لها بالنسبة للنخب الخليجية الحاكمة.
في كل الأحوال، في ضوء الانقسام العربي الحاد، والصراعات الإقليمية والدولية التي تدور في المنطقة العربية، والتدمير الكارثي الذي يلحق ببلدان عربية على أيدي المجموعات التكفيرية الإرهابية في سياق تلك الصراعات، يبدو الحديث عن التنمية المستقلّة والعدالة الاجتماعية أشبه بالترف الفكري.
ومع الإقرار بأهمية وصلاحية الأهداف والمبادئ العامة لمكونات المشروع النهضوي العربي، فإن الواقع العربي الكارثي الراهن يستدعي إعادة النظر ليس في التنمية المستقلّة الشاملة والعدالة الاجتماعية فحسب، بل وفي معظم مكونات المشروع النهضوي العربي لجهة السبل والوسائل.
|