المؤتمر العشرون
16 – 19 نيسان/ابريل 2009
الخرطوم – السودان
المقاومة كخيار إستراتيجي للأمة البُعد الثقافي**
أ. عبد الإله المنصوري*
* باحث.
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
*** لا يجوز نشر هذه الورقة كلا أو جزءا إلا بموافقة تحريرية من إدارة المؤتمر.
المقاومة كخيار استراتيجي: البعد الثقافي
يعتبر البعد الثقافي للمقاومة، واحدا من أبعادها الأساسية، بل انه البعد الأكثر إستراتيجية فيها، إذ رغم أهمية الأبعاد الأخرى فيها (العسكرية، الإعلامية، الحقوقية، السياسية، الشعبية، دعم الرأي العام العالمي...)، فإن البعد الثقافي يبقى أهمها على الإطلاق بحكم انه يشكل حصنها وملاذها الذي يضمن رعايتها ونموها واستمرارها إلى حين تحقيق أهداف الأمة كاملة في الحرية والكرامة والاستقلال من الغزوة الاستعمارية الغربية ومخلفاتها في أكثر من منطقة عربية في مشرق الوطن العربي الكبير أو مغربه.
يكتسب البعد الثقافي أهمية بالغة من جهة أخرى لأن مشروع تحرير أمتنا لا يستهدف تحرير الأرض فقط من رجس الاستعمار الأجنبي، بل تحرير الإنسان، تحريره عقلاً وفكرا وثقافة وعاطفة وذوقاً، باعتباره منطلق مشروعنا النهضوي وغايته في نفس الوقت، لأن التركيز على تحرير الأرض – لوحدها – يجعل خطر خضوع أهلها لاستعمار ثقافة الغازي الأجنبي قائماً، وهو ما وقع للأسف لمعظم شعبنا العربي في أقطار مختلفة، حيث أن استكمال التحرير العسكري لم يرافقه تحرير ثقافي يساهم في دعم اتجاه الأمة العربية نحو إبداع مشروعها النهضوي بأبعاده المختلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، مما جعل المجتمع العربي مشوباً بتشوهات كبرى على مستويات مختلفة أعاق حركة الأمة نحو أفق يحقق وحدتها ويطلق طاقة مواطنيها على الإبداع والتقدم وتحقيق نموذج متميز في عالمنا المعاصر.
ويأخذ البعد الثقافي للمقاومة أهمية مضاعفة في وضعنا العربي الراهن بسبب قوة الهجوم الذي يكنه أعداء الأمة على خيار المقاومة بهدف تسفيهه وإبعاد الأمة عنه، بوسائل شتى، سواء عبر التنقيص من قيمته أو دمغه بالإرهاب أو التشنيع على رموزه وتياراته أو استهدافهم بالقمع والاعتقال، مما يستوجب علينا ايلاءه ما يستحق من أهمية لدى كل قوى التحرر العربي وفي مقدمها المؤتمر القومي العربي، وهو ما سنعالجه باقتضاب يقتضيه المقام لبسط أهم القضايا التي يثيرها التفكير في هذا البعد.
1) في تعريف ثقافة المقاومة:
يمكن تعريف ثقافة المقاومة بكونها مقابلا لثقافة الاستسلام التي يراد فرضها على أمتنا وبناء أجيالها على أساسها، لذا تطرح ثقافة المقاومة نفسها نقيض لتلك الثقافة، باعتبار أن ثقافة المقاومة هي "نتاج لتراكم وموروث يتشكل وينمو – كما الهوية العربية – ضمن حواضن تاريخية وتأثيرات معاصرة تلعب دوراً في صياغتها وبلورتها وصهرها ضمن كيان جامع للتراث والتاريخ والتربية والسلوك"، لذا ينبغي استثمار منظومة الثقافة العربية التي تعتبر عموماً (بعد تخليصها من شوائب الثقافة السلطانية) كثقافة مقاومة، تقوم في الأساس على العدل ورفض التسلط والظلم، ما يعني أن الأرضية قائمة لأمتنا وصالحة لكي نبني عليها ثقافة قادرة على تذليل العقبات وتجاوز التحديات التي تنتصب أمامنا أساسا في المشروع الاستعماري الغربي في تجليه الأمريكي – الصهيوني حالياً، وهو التحدي الذي ينبغي مواجهته ثقافياً عبر الفكر والتربية والإعلام والآداب والفنون بأشكالها، وهي المعركة التي تقع على كاهل المثقف النقدي العربي أساسا لرسم طريقها وتكريس مفاهيمها في عقل الأمة وعاطفتها، بمساعدة الهيئات المدنية والسياسية والأجهزة الإعلامية والتربوية، وأول شروط إنجاح عملية نشر هذه الثقافة هو إعادة بناء مجموعة من المفاهيم والتصورات بما يخدم هذه الروح ويعمل على بلورتها وسيادتها على ارض الواقع، خاصة الاستعداد الكبير الذي عبرت عنه جماهير الأمة أثناء انتفاضتها تضامنا مع أهلنا في غزة في مواجهة ما تعرضوا له من همجية في العدوان الأخير، لتمثل ثقافة المقاومة واستيعابها والتحرك على ضوئها.
2) في ضرورة التحرر من بعض المفاهيم والتعبيرات المعادية:
تقتضي ثقافة المقاومة أساساً أن نعيد طرح الصراع في جذوره، والانتباه إلى خطورة الوقوع فيما يطرحه العدو من تفاصيل تافهة أو مصطلحات وتعبيرات تخدم إستراتيجيته وهو ما يحفل به إعلامنا للأسف، بل بعض كتابات أطراف محسوبة على قوى التحرر والتقدم بالوطن العربي لأن معركة المصطلحات جزء أساسي من صراعنا مع هذا المستعمر أمريكيا كان أو صهيونيا (أو غيره)، حيث يستوجب الأمر علينا تحديد طبيعة المعركة والعدو معاً، فمعركتنا هي مع الغزو الأجنبي لبلادنا (المشروع الصهيوني في فلسطين المحتلة من نهرها إلى بحرها)، والاحتلال الأمريكي للعراق، وكذا مع عملائه ووكلائه في المنطقة. وليست المعركة فقط من أجل استرجاع بعض الأراضي هنا أو هناك ( الضفة وغزّة والقدس الشرقية)، وبناء دولة مشوهة على بعض منها، أو إزالة آثار العدوان كما طرح في حرب رمضان. ان هدفنا بوضوح هو تحرير الأرض والإنسان من المستعمر الأجنبي ومخلفاته (سواء في فلسطين ولبنان والعراق بالمشرق العربي، أو في سبته ومليلية بمنطقة المغرب العربي). ليبدأ رفضنا لمبدأ الأمر الواقع الصهيوني من المصطلحات المروجة عبر الإعلام العربي المسنود أمريكيا وصهيونياً.
وعلى الأساس ينبغي الانتباه إلى مجموعة من المصطلحات والتعبيرات المستخدمة من قبيل "إسرائيل، الدولة العبرية، الضفة والقطاع، المجتمع اليهودي، الدولة اليهودية، القدس الشرقية والغربية، الجدار الفاصل، جيش الدفاع الإسرائيلي، الأرض مقابل السلام، بناء الدولة الفلسطينية، الأرض المحتلة، البرنامج المرحلي، حل الدولتين، يهودية دولة إسرائيل، الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إسرائيل دولة لليهود، حوار الحضارات.." وغيرها من المصطلحات ذات النفس الصهيوني الواضح واستبدالها بمصطلحات تعمل على ارض الواقع على أحقيتها مثل "الكيان أو العدو الصهيوني، دولة الاحتلال، التجمع الاستيطاني، كيان الاحتلال العنصري الصهيوني، جدار العزل العنصري، جيش الاحتلال الصهيوني، السلام المقترن بالعدل، إمداد المقاومة بالسلاح.." مما يجعلنا نمتلك زمام المبادرة ونتصدى للتطبيع النفسي والثقافي مع المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين المحتلة وسَدَنَتِه في كل مكان.
3) في استحضار بعض التجارب:
إن تجاوز المصطلحات التي يعمل العدو على ترويجها ونشرها ليس كافيا لبناء ثقافة مقاومة، بل ينبغي أن يكون الأمر مسنوداً باستحضار بعض تجارب المقاومة عبر التاريخ وأهميتها ما دام أن التاريخ هو قصة الحرية كما يقول كروتشه (Benedetto croce) ذلك أن استكمال كيان الاحتلال الصهيوني لستين سنة على اغتصابه فلسطين لا ينبغي أن ينسينا حتمية زواله مهما طال الزمن، لقد استمر الاحتلال الاستيطاني الفرنسي للجزائر 132 سنة وكان شبيها بنظيره الصهيوني لفلسطين (كانت الجزائر تسمى فرنسا الأفريقية) ومع ذلك رحل الاستعمار ومستوطنوه الذين كانوا يعدون بالملايين وحققت الثورة الجزائرية نصراً مدويا للأمة العربية على أعدائها، كما اندثرت دول كثيرة وانهارت رغم أنها كانت دولا طبيعية (عكس الكيان الصهيوني الذي يُعتبر كيانا غير طبيعي بكل المقاييس). كما أن صمود المقاومة الفيتنامية مثال بارز على قدرة شعب من الشعوب على الاستمرار في المقاومة لمدة طويلة وفي مواجهة ثلاثة دول إمبراطورية محتلة (اليابان، فرنسا، وأمريكا)، وخاض الشعب الفيتنامي معركته من أجل الحرية والوحدة، وكان له ذلك، كما ان تاريخ العرب مليء بالدروس والعبر في الصمود والتصدي للغزو الأجنبي سواء في تاريخنا المعاصر أو في زمن التصدي لحروب الفرنجة واستعادة القدس وفلسطين بعد احتلال مستمر لمائة عام، بل إن تجربة العرب القريبة شاهدة على إمكانية تحقيق النصر وتجاوز عثرات الهزيمة، إذ من كان يعتقد بأن الصهاينة سيهربون من لبنان في ماي 2000، أو سيهزمون في عدوانهم على لبنان في تموز 2006، ومن كان يعتقد أن أهلنا في مخيم جنين أو قطاع غزة سيبهرون العالم بصمودهم الأسطوري في مواجهة محرقة غزة مطلع هذا العام؟ ! بشكل أصبح فيه خيار المقاومة الخيار الأكثر عقلانية وواقعية في مقابل فشل خيار التسوية والمفاوضات وانعدام مردوديته وسقوط رموزه والداعين إليه.
كما أن نضالنا ضد المشروع الأمريكي - الصهيوني من اجل الحرية والكرامة ينبغي ان يدرج في سياق النضال الاممي ضد الرأسمالية وحروبها ومآسيها، مما يعطي لقضايانا امتداداً كونياً يجعل منها حاضرة لدى جميع أحرار العالم، وهي واحدة من الحقائق التي أفرزتها جرائم أمريكا في العراق ومحرقة الصهاينة في غزة حين كان للرأي العام العالمي دور كبير في فضح الإرهاب الأمريكي الصهيوني وتحول أمريكا والكيان الصهيوني إلى أكثر الدول مكروهية في العالم.
4- في عملية التوريث الاستراتيجي:
لا تتحقق الأهداف الإستراتيجية العليا لأمة من الأمم – في الغالب – خلال عمر جيل واحد من أجيالها، وحتى إذا ما تحقق ذلك فان عملية الحفاظ عليها تتم بواسطة الأجيال التالية. ولا تتعاقب الأجيال على تحقيق الأهداف الإستراتيجية العليا – والحفاظ عليها- إلا إذا توارثت تلك الأهداف بشكل يستقطب كل الجهود والإمكانات المتاحة من خلال توجيه السلوكيات البشرية للأجيال. والسلوكيات المستديمة للبشر لا تنبثق من فراغ بطريقة فجائية أو طفرية، بل هي نتاج للخبرات التاريخية السابقة – والاقتناعات. فالسلوك البشري – على مر الأجيال – هو نتاج للتفاعل بين " الموروث الثقافي " او " الميراث الاجتماعي" وبين معطيات الواقع.
وعندما يرتبط هذا الموروث بأهداف قومية أو أممية كبيرة فإننا نصبح أمام "عملية توريث استراتيجي" وأمامنا في العصر الحالي نموذجان متناقضان ومتصارعان لعملية التوريث الاستراتيجي هما: نموذج توريث الحُلْم الصهيوني الأسطوري، ونموذج توريث نموذج المقاومة العربي في أفق تحرير فلسطين وهزيمة المشروع العنصري الصهيوني، رغم الفارق في المشروعية بين النموذجين.
وفي هذا الإطار تلعب ثقافة المقاومة دورا استراتجيا من حيث أنها تقوم بدور توعية الأجيال بالأهداف الكبرى للأمة مما يجعل منها ضرورة حيوية لأسباب عديدة:
- تعتبر هذه العملية اكبر ضمانة لتحقيق أهداف أمتنا العربية والحفاظ عليها إذ بواسطتها تدفع الأجيال المتعاقبة في اتجاه الحفاظ على مكتسبات من سبقهم، حيث يقوم التوريث الاستراتيجي بدور الوظيفة الاتصالية الحضارية.
- وجود أهداف إستراتيجية متوارثة بين الأجيال يمثل عاملا قوياً للتماسك المجتمعي داخل الدولة أو الأمة الواحدة المتعددة التيارات السياسية ويمنعها من التفسخ والانحلال.
- ترسيخ الأهداف الإستراتيجية في الوعي التاريخي للأجيال يمنح كل جيل مساحة واسعة للمناورة دون تأثير على الاستراتيجيات فقد يقبل طرف أو جيل تقديم بعض التنازلات المرحلية أو الرضا ببعض المكتسبات الجزئية لاطمئنانه أن الأجيال اللاحقة ستكمل المسيرة نحو تحقيق الغاية الكبرى.
- إن عملية التوريث الاستراتيجي حالة تمثل عامل ضغط قوي على الطرف الآخر في الصراعات الدولية حيث يدرك الآخر قوة التصميم لدى خصمه وعزمه على الاستمرار في الصراع. وهو ما تؤكده تجربة النخب الصهيونية التي تنطلق من خلفية إدارة الصراع، في مقابل انطلاق نخب التسوية العربية من خلفية أن الصراع قد انتهى!
وبالرغم من أن الكيان الصهيوني ينطلق في مشروعه للتوريث الاستراتيجي من حلم أسطوري لا علاقة له بحقائق التاريخ والجغرافيا، فانه حقق مكاسب كبرى في سياق مشروعه الهيمني على المنطقة العربية، في مقابل العديد من عناصر الفشل الذي اعترت المشروع العربي للتوريث الاستراتيجي للقضية الفلسطينية للأجيال المتعاقبة، رغم انه مدعوم بحقائق التاريخ والجغرافيا، بسبب فشل النخب الرسمية العربية في عملية إدارة الصراع لمواجهة المشروع الاستعماري والعنصري الصهيوني المدعوم من القوى الكبرى.
ويمكن تفسير هذا الفشل بغياب فكرة التوريث الاستراتيجي للقضية لديها مما جعل ما هو مرحلي يطغى على ما هو استراتيجي، بل اخذ مكانه ليصبح غاية في ذاته بدل أن يكون مجرد وسيلة، وهو ما يمكن رصده في المستويات التالية:
• سلسلة التنازلات عن الحق الفلسطيني بشكل مستمر، فمن رفض قرار التقسيم إلى القبول به، مروراً بمحاولة تجاوز آثار العدوان بعد نكسة 1967 وانتهاء بغزة وأريحا واتفاقات أوسلو وإمكانية تبادل الأراضي..
• تناقص حجم توريث القضية الفلسطينية: حيث يلاحظ أن مسلسل التنازلات رافقته مجموعة من العوامل أهمها ضعف الاهتمام بالقضية الفلسطينية على المستوى الثقافي، والضعف الكبير على مستوى حجم تناول المناهج الدراسية للقضية الفلسطينية، ناهيك عن ترويج الخطاب العربي حول فلسطين لمفردات ذات دلالات فضفاضة أن لم نقل معادية لحقوق امتنا، كما بسطنا ذلك في فقرة سابقة.
خلاصة: ان مركزية قضية التحرر في المشروع النهضوي العربي تقتضي ان نحرص كمؤتمر قومي عربي على هذه العملية الإستراتيجية الكفيلة بحفظ حقوقنا كاملة، وهو ما يمكن للثقافة القيام به عبر حفاظها على مركزية القضية الفلسطينية في الوعي العربي العام وعدم إسقاطها وشطبها كما يحلم بذلك الصهاينة وعملاؤهم في المنطقة، بما ينتج أجيالا مستسلمة للأمر الواقع، وقابلة للتطبيع مع كيان الإرهاب الصهيوني والقبول بشرعية اغتصابه لأرض فلسطين وتشريد أهلها. وهو ما يحتم علينا أن ننتبه إلى هذه المخاطر وتحويل الثقافة إلى سلاح في مواجهة المحتلين لنبني "موروثاً ثقافياً" سمته الأساسية المقاومة، خاصة بعد أن كشفت محرقة غزة الأخيرة عن حجم الاستعدادات النضالية إلى امتنا من المحيط إلى الخليج، متجاوزين عوائق الأنظمة الاستبدادية القطرية التي بنت شرعيتها على استمرار التجزئة أو الاستسلام للعدو (كامب ديفيد) ومواجهة خيار الشعوب في المقاومة ودعمها بخصوصية مزعومة لأنظمة فاسدة أهلكت الحرث والنسل وأدمنت الفشل في تدبير الدول التي تحكمها.
أن أهمية البعد الثقافي للمقاومة لا ينبغي أن ينسينا الأبعاد الأخرى حتى نستطيع انجاز مشروعنا النهضوي بأركانه المختلفة سعياً منا لنجعل لأمتنا مكانا تحت الشمس في هذا العالم المضطرب الأحوال.
|