www.arabnc.org
   
الصفحة الرئيسة
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
المشاركون في الدورة ا
المشاركون في الدورة ا
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول المشاركين 30
جدول المشاركين 31
الأول 1990
الثاني 1991
الثالث 1992
الرابع 1993
الخامس 1994
السادس 1996
السابع 1997
الثامن 1998
التاسع 1999
العاشر 2000
الحادي عشر 2001
الثاني عشر 2002
الدورة الطارئة 2002
الرابع عشر 2003
الخامس عشر 2004
السادس عشر 2005
السابع عشر 2006
الثامن عشر 2007
التاسع عشر 2008
العشرون 2009
الواحد والعشرون 2010
الثاني والعشرون 2011
الثالث والعشرين 2012
الرابع والعشرون 2013
الخامس والعشرون 2014
السادس والعشرون 2015
السابع والعشرون 2016
الثامن والعشرون 2017
التاسع والعشرون 2018
الثلاثون 2019
الواحد والثلاثون 2022
القائمة البريدية
بحث
تصغير الخط تكبير الخط 
القضية الخاصة 28 ((القضية الخاصة 28))
المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE

التوزيع: محدود
الرقم: م ق ع 28/وثائق 12
التاريخ: 24/4/2017
ـــــــــــــ
المؤتمر الثامن والعشرون، 12 – 13 أيار/مايو 2017، بيروت - لبنان

الطائفية: مخاطرها، تداعياتها وسبل مواجهتها**
(لبنان نموذجاً)
أ. بشارة مرهج*

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* رئيس مجلس إدارة دار الندوة، وزير ونائب سابق، عضو المؤتمر القومي العربي
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.

الطائفية: مخاطرها، تداعياتها وسبل مواجهتها
(لبنان نموذجاً)
بشارة مرهج

مقدمة
يخطئ من يظنّ أنّ الطائفية في لبنان أو سواه من بلدان المشرق هي ظاهرة مفتعلة أو مستوردة. إنّها ظاهرة اجتماعية سياسية موجودة "بالإمكان" منذ وجدت الأديان على الأرض، ومنذ اختلفت الاجتهادات البشريّة حولها. لذلك من الطبيعي أن تنشأ جماعات حول القراءات الدينية المتعددة، كما من الطبيعي أن تكوّن هذه الجماعات، المتراصة برابطة الدم أو العيش المشترك عصبيّة جديدة لكلّ منها تتمحور حول نظرتها الدينية لتأخذ مكانها، من ثم، إلى جانب العصبيات الأخرى. واذ تطرأ على كل جماعة مواجهات وتدخلات، وتنشأ لديها مصالح وتقاليد، فمن المحتم أن يشتد عودها ويتضامن أفرادها في رابطة مذهبية لها تراثُها الخاص وطقوسُها وهرميتُها ورموزُها وتعاليمُها ومؤسساتُها وممتلكاتُها.
وفي طريقها لأخذ مكانها وضمان كينونتها وتعزيز مكانتها في الحيز الاجتماعي والفضاء الديني تتنافس هذه الطائفة مع طوائف أخرى وتتشابك معها في علاقة جدلية تتراوح بين مد يد التعاون لها في العلن، والطعن بها في الخفاء فتظهر بمظهر الإيجابي أمام الرأي العام فيما هي تمارس لعبة العصبية من الداخل تبريراً لوجودها وسعيًا لتعزيزه أمام جمهورها.
ولمّا كان تنازع البقاء يحتّم على كل مذهب تعبئة طاقاته وعقد تحالفاته وتنظيم صفوفه فمن الطبيعي أن ينزلق من الفلك الديني الاجتماعي إلى المجال السياسي، خصوصاً عندما تستقوي السياسة بالديني لتكريس شرعيتها، ويستقوي الديني بالسياسي لتعزيز أوضاعه، فتلتقي المصلحتان، وربما تتلازمان، وفقاً لتبدل الأحوال والأزمان.
ولمّا كان هذا المسار متّسقا مع حركة الواقع، فمن الطبيعي أن يكون لدى المذهب الطائفي بعدٌ سياسيٌّ؛ إلّا إذا كان هذا المذهب لا يشغل حيزاً مكانياً كبيراً ولا يضم في صفوفه أعداداً غفيرة فيتجه إلى الانكفاء وتقليص ظهوره، وتلك أيضاً سياسة ولكن من نوع آخر.
وعندما تستشعر الزعامة الطائفية خطراً على حصتها أو نفوذها تعمد إلى استنفار العصبيّة الطائفيّة في كل الاتجاهات، فتصوّر الوضع وكأن الطائفة أمام معركة وجود بما يتهدّد الكيان والأفراد على حدٍّ سواء؛ فتشتدّ الاوتار ويُستدعى الاستنفار ليصبح الولاء الأعمى للزعامة هو الوجه الآخر للانتماء الطائفي، حيث يصبح النقاش الوحيد المسموح به هو ترداد عبارات الزعامة، وشرح مواقفها، وإطلاق خطاب تمجيد الذات، وكره الآخر بما يرفع من منسوب التعصّب الجمعيّ وحُمّى التنازع الثنائي، فتدفع الدولة بمؤسساتها وقيمها الثمن ومعها الفرد الذي تستباح إرادته وتُسلب حقوقه، وكل ذلك بذريعة حماية الطائفة "التي هي دائمًا على حقّ".
من المتعارف عليه أنّ لبنان هو النموذج الأبرز للنظام الطائفي في المنطقة، ولكن بعد تحول الطوائف في العراق إلى كيانات شديدة الحضور بسبب التطورات السياسية – الاجتماعية من جهة، واعتماد دستور بول بريمر  من جهة ثانية، يمكن القول إنّ العراق اليوم هو النموذج الأبرز للنظام الطائفي، لا سيّما أنّ هذا النظام آخذ بالتطور – نظراً لاحتدام الصراع – إلى كيانات سياسية طائفيّة بعضها مكتمل المعالم وبعضها الآخر يخطو حثيثًا على هذا الطريق، فيما الدولة المركزيّة تضعف يوماً بعد يوم نظراً لتطلعات الزعامة الكردية من جهة، ونظراً لسياسة التمييز التي تتبعها الطبقة الحاكمة وسط اختلاسات لمليارات الدولارات على يد قلة تعيش عيشة السلاطين، فيما الشعب العراقي يعضه الفقر ويلاحقه الخوف، وهو الذي قدّم المساعدات فيما مضى لمعظم الأقطار العربية والإسلامية والأفريقية.
لقد ذرّت الطائفية بقرنها في البحر العربي الواسع كما على المدى الإسلامي، فبرزت المشاعر المستترة والمواقف المكبوتة، فاذا بالصراع الشيعي السني الذي روّجت له أميركا وكتّابها وحكّامها وأجهزتها يظهر على السطح في الهند وباكستان كما في العراق وسوريا وبلدان أخرى في ظل قول الكثيرين: "إننا لم نعتد هذه الصراعات الغريبة عن مجتمعاتنا ونحن لم نكن نعرف طائفة زملائنا في المدرسة أو الحي أو العمل".
وبعدما كانت المشكلة الطائفيّة تعيش في الظلّ أصبحت منذ عقود قليلة حاضرة وصاخبة تفعل فعلها في تمزيق المجتمعات وإضعافها، وتعريضها لتدخلات أجنبيّة متنوّعة بعضها صديق وبعضها مستفيد، وأهمها التدخلات الأميركية المنسّقة مع التدخلات الصهيونيّة التي باتت، بعد هزائمها المتتالية على يد المقاومة اللبنانيّة والمقاومة الفلسطينيّة، تفضل العمل بطريقة غير مباشرة لإثارة الحروب والفتن داخل الصف العربيّ، بما يوفر لها الأمان ويجعل الجميع من حولها عبارة عن واقع هش منهك بالصراعات الداخليّة المستعرة.
إنّ الموقف التقليدي الذي ينكر المشكلة الطائفيّة في البلدان العربية أصبح من الماضي بعد أن كذّبته الأحداث، لاسيّما أنّ هذا الموقف لا زال يخاطب القشرة دون أن ينفذ إلى باطن الأمور، حيث المسكوت عنه أخطر بكثير ممّا هو متداول، ممّا يستدعي جهدًا خاصًّا لمعالجة هذه الظاهرة التي تنهش مجتمعاتنا، وتعطّل مسيراتنا الوطنية، وتلهينا عن قضيّتنا المركزية.
والمشكلة الطائفيّة موجودة في الشرق منذ زمن بعيد، وقد كتب الكثير في مسألة المِلل والنِّحل التي نشأت لأسباب سياسيّة وفقهيّة واحتلّت مكانًا واسعًا في تاريخ المنطقة لاسيّما في الأطراف.
وإذا كان المغرب العربيّ لا يعيش هذه المشكلة منذ زمن بعيد فليس من الصعب تبيّن جذورها القديمة وأثارها الماثلة التي لا زالت تتفاعل، ولا سيما في بلد كبير مثل مصر، حيث للظاهرة الطائفية حضور بأشكال مختلفة، وحيث تستخدم أحيانًا لأغراض سياسيّة.
ويتبيّن من خلال المعاينة أنّ هذه الظاهرة لم تقتصر على بلداننا، وإنّما كان لها شأن كبير في بلاد الغرب أيضًا؛ وعلى سبيل المثال فقد كان الصراع طاحنًا بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنيسة الانغليكانيّة في إنكلترة، حيث استتبّ الأمر للأخيرة في القرن السادس عشر وأصبح الملك هو رأس الكنيسة. كما أنّ فرنسا شهدت صراعًا دمويًّا بين الكاثوليك والهوغونوت (البروتستانت) سقط فيه ضحايا كثيرون قبل أن يحسم لصالح الكاثوليك.
والكلّ يذكر أنّه عندما استطاع ليونيل جوسبان البروتستانتي التربّع على كرسي رئاسة الحكومة في باريس اعتبر كثيرون الأمر ظاهرة استثنائيّة. كما أنّنا جميعًا نعرف أنّ جون كنيدي الذي اغتيل في ريعان شبابه كان الرئيس الكاثوليكي الوحيد في تاريخ الولايات المتحدة.
وعندما انقسمت المسيحيّة على نفسها بين كاثوليك وأرثوذكس، أي بين روما والقسطنطينية بالأحرى، كان للواقع التاريخيّ والجغرافيّ السياسيّ شأن كبير في هذا الانشطار، حيث لم يكن سهلاً لأيّ من العاصمتين أن تسلّم أمرها للأخرى، وكل منهما عاصمة لإمبراطوريّة مترامية الأطراف.
وفي تاريخنا الحديث لا يمكن إغفال التدخلات الخارجيّة في اصطناع، أو إذكاء، الخلافات الطائفيّة في بلادنا؛ وأبلغ دليل على ذلك تقسيم الطائفة الأرثوذكسيّة في الشرق بضغوط متواصلة عن الغرب الأوروبّيّ وليس عن طريق السلطنة العثمانية الحاكمة آنذاك والتي رعت نظامًا موروثًا كان مناسبًا لها، حيث تركت الأحوال الشخصيّة بعهدة كل طائفة على حدة، وصولاً إلى منح امتيازات وأشكال من الحكم الذاتيّ لكلّ منها عندما لم يكن هناك من خطر على أمنها أو سلامتها.
وقد كان لغير المسلمين حضور قويّ داخل الإمبراطورية العثمانية التي اعترفت به السلطنة وقوننته تحت عنوان "نظام الملّة".
وقد قام هذا النظام الذي يعتبره البعض جذر المشكلة الطائفية في لبنان على ثلاثة أعمدة: الأوّل: الواقع التعدّدي الذي طرح نفسه داخل السلطنة، الثاني: وتمثل بالضغوط التي مارسها الغرب على العثمانيين في مسار تطوره الرأسمالي وحاجته إلى اختراق السلطنة والسيطرة على أسواقها الداخليّة. الثالث: الحاجة الذاتيّة للإصلاح داخل السلطنة واسترضاء مكوّناتها المختلفة للمساعدة على تحقيق الاستقرار وحفظ الأمن.
لمحة تاريخيّة 
 في القرن السابع عشر كانت طوائف عدة تسكن جبل لبنان، لكنّ الصراع الطائفيّ لم يكن مستعرًا فيما بينها؛ إذ كان سكان الجبل، دروزًا ومسيحيين، يعتبرون أنفسهم امتدادًا للقيسيّة أو اليمنيّة؛ الحزبين الأساسيين المتصارعين والقادمين من الجزيرة العربية عبر هجرات متتالية إلى بلاد الشام وثغورها. 
 أمّا جبال لبنان الشماليّة، حيث بشري وجبّتها ومحيطها، فكانت ميدانًا حصينًا للطائفة المارونية التي استقرّت فيها بعد هجرتها من سوريا. 
 بعد معركة عين دارة 1711 التي انتصرت فيها القيسيّة على اليمنيّة قرّب حيدر الشهابي، الأمير المنتصر، الإقطاع المسيحي منه في الوقت الذي ابعد فيه دروز اليمنيّة إلى سوريا. بعد تلك المعركة انتعش الحضور المسيحي مستفيدا من عطف الشهابية والخبرات الماليّة والإداريّة والسياسيّة التي اكتسبها من خلال الاحتكاك بالدول الأوروبية ومؤسساتها ورعاياها في بلادنا. وكانت تلك الدول التي توسّع نفوذها في لبنان، من خلال القناصل والتجار والمدارس والإرساليّات التي نشرتها في المدن الساحلية والبلدات الجبليّة، تستعدّ لاقتسام تركة "الرجل المريض" والسيطرة على موارد المنطقة واستتباع أهلها. 
 إلى ذلك استفاد الحضور المسيحي من إصلاحات إبراهيم باشا التي تصدّت للإقطاع ودعت للمساواة بين اللبنانيين في أثناء الحكم المصري للبنان أيام الأمير بشير الشهابي، فضلًا عن الإصلاحات التي طرحتها السلطنة العثمانية تحت الضغط الأوروبي وأدّت إلى فتح الأسواق أمام التجارة الأوروبية وزيادة الاعتماد على العائلات المسيحية التي بدورها ازدادت غنى ونفوذًا وتمددًا، مقابل تصاعد الحركة المطلبيّة لدى الفلاحين الموارنة في وجه الإقطاع المسيحي كما الدرزي والتي بلغت ذروتها في ثورة طانيوس شاهين. ولما أقدم الأمير بشير الشهابي الثاني على إقصاء زعيم الدروز بشير جنبلاط شعر دروز الجبل بالخطر الشديد لا سيّما أنّ قصر بيت الدين، مركز الأمير الشهابي، كان يضجّ، كبلدة دير القمر القريبة، بالمستشارين والإداريين والقادة المسحيين الذين تحلّقوا حول الأمير مما زاد من توجّس الطائفة الدرزيّة وتصاعد نقمتها على التطورات الحاصلة. 
 ونتيجة لذلك ارتفع منسوب التوتر في الإمارة وفتحت الطريق أمام الفتنة التي انفجرت في عهد بشير الثالث حيث شهد لبنان تدخّلًا أجنبيًّا كثيفًا من العواصم الأوروبية التي تبسط حمايتها على الطوائف اللبنانية. ولمّا انفجر الوضع بين الطائفة الدرزية والفئات المسيحية  لاقى هذا الانفجار دعما خفيًّا من أطراف أوروبية كما من السلطنة العثمانية كل لأغراضه. ولما توسع الحريق ارتأى الطرفان الموافقة على اقتراح ميترنخ وزير خارجية النمسا بتقسيم لبنان إلى قائمقاميتين تفصل بينهما طريق بيروت - الشام. الاولى للدروز مركزها بيت الدين وعلى راسها قائمقام درزي، والثانية مسيحية ومركزها بكفيا وعلى راسها قائمقام مسيحي، على أن يخضع الإثنان لوالي صيدا العثماني.
ولمّا دعا البطريرك الماروني عام 1841 أبناء ملته في الشوف والمتن للتمرّد على السلطة الدرزية وقفت عامة الدروز مع قياداتها ونشأ صراع بين القائمقاميتين. وسرعان ما امتدّ الصراع إلى راشيا وزحله والأطراف فاستمرت حال الفوضى والاقتتال إلى عام 1842 عندما أرغم بشير الثالث على الرحيل. وإذ سقطت تجربة القائمقاميتين تكرس التقسيم الطائفي في لبنان على الصعيد الاجتماعي كما السياسي، وتكرست معه شرعية التدخل الأجنبي في تقرير ماهية السلطة في جبل لبنان الذي أصبح له وضع خاص مع إذعان اسطنبول للإرادة الأوروبية. وإذ بقي الجمر تحت الرماد استمرّت الاضطرابات في جبل لبنان، واستمرّ الصراع العثماني الأوروبي، وامتدت نار الفتنة إلى دمشق وسقط جراء ذلك آلاف الضحايا السوريين  واللبنانيين وبخاصة المسيحيين منهم، الذين اشتدّت حركة الهجرة لديهم نحو بيروت، ولاحقًا نحو المهاجر.
 وبعد رسوّ أسطول نابليون الثالث على الشواطئ اللبنانية شنّت اسطنبول حملة على الدروز مسايرة للفرنسيين وخوفًا من مكوثهم في لبنان، فيما أبدت الدول الأوروبية معارضتها للخطوة الفرنسية الانفرادية وتوافقت على تحديد مدّة وجودها، ثم قرّرت بالتفاهم مع باريس واسطنبول تشكيل لجنة دولية لمعالجة الوضع المتفجّر في جبل لبنان .
أقرّت اللجنة النظام الأساسي لجبل لبنان (نظام المتصرفية) الذي فصلته عن ولاية صيدا وجعلت على رأسه حاكمًا مسيحيًّا أجنبيًّا يعيّنه الباب العالي بموافقة أوروبا على أن يعاونه مجلس إداري يمثل بالتساوي الطوائف اللبنانية الست (الموارنة، الدروز، السنة، الروم الأرثوذكس، الروم الكاثوليك، والشيعة). ثم جرى تعديل هذا النظام عام 1864 بحيث أصبح المجلس الإداري مكوّنًا من أربعة موارنة ، ثلاثة دروز ، ثلاثة روم ، شيعي واحد، وسني واحد.
 وبقيام حكم المتصرفية الذي دام حتى سنة 1915 تم تعديل النظام السياسي في لبنان وتكريس طابعه الطائفي فأصبح الحاكم مسيحيًّا أجنبيًّا بعد أن كان مسلمًا لبنانيًّا، وأصبحت الحماية الأجنبية من مؤسسات الكيان الجديد. وقد انعكس توزيع مقاعد المجلس الإداري على الإدارة المدنيّة كما العسكريّة فأصبح للموارنة نفوذ متعاظم فيما تقدّم البطريرك الماروني مكانة ونفوذًا. 
 وفي عهد المتصرفيّة ازداد عدد المدارس والإرساليات الأجنبيّة، وتأسّست في بيروت الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأميركية) والجامعة اليسوعية، وازدادت سلطة الأديرة التي زادت ملكيتها العقارية وتوسع نفوذها الثقافي. كما زاد ثراء الفئات المسيحية في المدن لاتصالها بالأوروبيين ونشاطها التجاري المتزايد بعد أن أصبحت بيروت مرفأ لبنان وسوريا على حدٍّ سواء.
 ويمكن القول إن موازين القوى في جبل لبنان كما في بيروت تحولت لمصلحة المسيحيين، والموارنه منهم خصوصًا، الذين باتوا يشعرون بالقوة في ظل النفوذ الأوروبي، ويعتبرون أنّ الكيان اللبناني إنّما وجد من أجلهم. 
 ولئن نعم جبل لبنان في عهد المتصرفية بالأمن النسبي إلّا أنّه عانى من ضائقة اقتصادية فعاش ما يشبه العزلة، في حين تحولت بيروت إلى مركز اقتصادي ومنارة ثقافية برز فيها الشعراء والكتاب والأطباء وفي مقدمهم المعلم بطرس البستاني الذي دعا للاتحاد مع سوريا، والشاعر ابراهيم اليازجي صاحب القصائد القومية العربية  المعروفة. وتفاعلت الحركة النهضوية في بيروت مع مثيلتها في مصر التي حط في رحابها مثقفون لبنانيون أسّسوا فيها الصحف والمجلات العلميّة وبنوا فيها المعامل والمصانع وكان في طليعتهم جرجي زيدان، فرح انطون، شبلي الشميل، يعقوب صروف، رشيد رضا، آل تقلا، آل الجميل .
 ومقابل المنهج الانفتاحي والعربي والإنساني الذي برز في حركة النهضة بذلت الدوائر الاستعمارية أقصى الجهود لتشجيع فكرة الكيان اللبناني وربط هذ الكيان بالديانة المسيحية واعتبار لبنان وطنًا قوميًّا للمسيحيين. وبرغم محاولاتها الحثيثة لتزوير الحقائق وإلغاء الهويّة العربية لجبل لبنان إلّا أنّ هذه الدوائر لم تفلح في تسويق فكرتها إلّا في نطاق محدود اذ لم 
يشهد القرن العشرون في بدايته أيّ منتدى ثقافي مرموق يدعو صراحة للقومية اللبنانية مما اضطر المستشرقين لطرح هذه الأفكار في المغتربات كما في المدارس والجامعات. وكان على رأس هؤلاء الاب لامنس البلجيكي الذي تفوق على نفسه في إبراز الملامح السلبيّة للحضارة العربية، وتعظيم الحضارات المشرقية القديمة.
 أمّا سياسة التتريك التي اتبعتها "تركيا الفتاة" تجاه العرب فقد جوبهت بقوة من قبل الأوساط الثقافية في الجبل وبيروت ومدن الساحل التي تمسكت مع الأديرة اللبنانية باللغة العربية كما بالهوية العربية، حتى إن مجلس إدارة لبنان الذي كان برئاسه مسيحي وأكثرية مسيحية صوت إلى جانب الاتحاد مع سورية، ورفع العلم العربي بوجه الانتداب الفرنسي الذي ذهل للمفاجأة فاستخدم سيف القمع والاعتقال بحق رئيس وأعضاء المجلس معلنًا تمسّكه باتفاقية سايكس – بيكو التي عقدها مع حليفه الإنكليزي - صاحب وعد بلفور .
رسّخ الانتداب الفرنسي الروح الطائفيّة في البلاد وأعاد تركيب النظام السياسي على قواعد طائفية واضحة مبديا انحيازه الواضح للبيئة المسيحية. ولما أعلن الجنرال غورو ولادة لبنان الكبير عام 1920 احتج عليه فريقان. الأول مسيحي بدعوى أن الكيان الجديد يزيد من عدد المسلمين الذين يشكلون أغلبيّة في الأقضية السورية الأربعة المضمومة إلى لبنان ، وفريق 
مسلم على اعتبار أنّ الكيان الجديد يتناقض مع مفهوم الدولة العربية التي يفترض أن تضم سوريا ولبنان. وقد أدّى إعلان غورو إلى تكريس الفصل بين لبنان وسوريا وإخضاعهما لحكمه المباشر. وبعد توالي الانتفاضات بوجهه، وخاصة في سوريا، عمد الانتداب الفرنسي إلى إصدار دستور للبنان اضطرّ لاحقا إلى تجميده مرارًا خوفًا من النزعة الاستقلاليّة التي كانت تطلّ برأسها بين الحين والآخر. 
 وقد تحول الدستور الجديد  الذي أقرّ النظام البرلماني إلى نوع من الحكم الذاتي اللبناني وأداة للتحكّم الفرنسي الذي ثبّت المؤسسة الطائفيّة  وأسبغ عليها الشرعيّة، وزوّدها بالحصانة، واعترف بحقها في إدارة شؤونها الذاتية واعتماد قوانينها الخاصة وامتلاك مؤسساتها التربوية والقضائية والمالية مما جعلها المؤسسة الأهم في النظام اللبناني. 
وبينما ازداد الوجود المسيحي في الإدارة والجيش وقوى الأمن ابتعدت الطائفتان السنية والشيعية عن مراكز السلطة مما زاد في اختلال الميزان لمصلحة المسيحيين .
ولما انفجرت التظاهرات في سوريا عام 1936 ضد الاحتلال الفرنسي ومحاولاته فرض المعاهدات المجحفة بحق دمشق تجاوبت بيروت وطرابلس وصيدا مع تلك التظاهرات ممّا
ذكّر الانتداب بانتفاضات دمشق وسلطان باشا الاطرش وابراهيم هنانو وصالح العلي فتوجّست السلطات الفرنسية الاستعمارية شرًّا من هذا التجاوب وحسبت له ألف حساب.
 أمّا المؤسسة الحاكمة في لبنان فقد سارعت إلى تشكيل منظمة الكتائب شبه العسكرية للوقوف بوجه التيار الشعبي الوطني الذي كان يتمخض عنه الشارع الإسلامي بالترابط مع الحركات الشعبية والتقدمية والقومية التي كانت تنشط سرًّا وعلنًا وسط الشعب.
 وبعد أن استقرت رئاسة الجمهورية بيد المسيحيين، ورئاسة المجلس النيابي بيد الشيعة، استقرّت رئاسة الحكومة بيد السنة، خصوصا بعد نهوض البورجوزية السنية وشيوع النظرية التي تقول: "إنّ الوحدة العربية مطلب حق، ولكن حتى تتحقق هذه الوحدة فليس من الحكمة أن يخسر المسلمون ما هو في متناول اليد".
 أمّا على الصعيد المسيحي فقد نشأ تيار يمثل الانعزالية اللبنانية "الصافية" التي تدعو إلى قيام وطن لبناني مسيحي تحت الحماية الفرنسية، وقد مثل هذا التيار زعيم الكتلة الوطنية الرئيس إميل إده . أمّا التيار الثاني الذي يمثل الانعزالية المعتدلة فقد كان برئاسة الرئيس بشارة الخوري  الذي كان يدعو إلى التعاون مع المسلمين في لبنان كما إلى التعاون مع البلدان العربية والاوروبية.
وإذ تهاوت الدولة الفرنسيّة في بداية الحرب العالمية الثانية انتكس التيار الانعزالي المتطرف وانتعش التيار المنفتح الذي اعتبر أنّ الاستقلال يكاد يصبح حقيقة ملموسة. 
 وعلى هذا النحو التقى التيار المسيحي المنفتح بالجناح الإسلامي المتفهّم للكيان اللبناني المستقل فكان الميثاق الوطني الذي اعتبر أنّ المشاركة بين المسيحين والمسلمين هي المدخل للوحدة اللبنانية والاستقلال على أن تُوزّع السلطات بما يطمئن المسيحيين، وعلى أن يكون لبنان ذو الوجه العربي بلدًا حرًّا سيدًا مستقلًا لا مستقرًّا للاستعمار ولا ممرًّا، يقيم مع أشقائه العرب أوثق العلاقات الأخوية، ويستسيغ من الغرب كل أمر نافع .
 أصبح الميثاق الوطني قاعدة الحكم والشراكة فانعكست فلسفته على سلطات الدولة فبات رئيس الجمهوريّة هو الحاكم الفعلي يتمتع بصلاحيات شبيهه بصلاحيات المندوب السامي. وانعكس الأمر نفسه على الإدارة والجيش والقوى الأمنية فكانت الدفّة تميل دائما لمصلحة الطائفة المارونية ممّا أدّى إلى شعور بالكبت والغبن لدى الطوائف الاخرى .
وكلّما كان الرئيس الماروني حكيمًا متوازنًا ملتزمًا بروح الميثاق كان يتمكن من استيعاب التطورات وما يرافقها من توترات، خصوصًا إذا كان مدركًا لأهميّة موقف لبنان من العرب وصراعاتهم. وعندما اختل ميزان الحكم بانحياز الرئيس كميل شمعون لحلف بغداد عاشت البلاد اضطرابات واسعة لمدة ستة اشهر حتى تسلم اللواء فؤاد شهاب الرئاسة، بناء على تفاهم تم بين الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور، فاستُعيد الامنُ والنظام حتى بداية السبعينيات. ولمّا لجأت المقاومة الفلسطينية إلى لبنان لاقت الترحيب من قطاعات واسعة من اللبنانيين كانت تتعاطف مع الحق الفلسطيني، وتشعر في الوقت نفسه بضرورة الرد على هزيمة 1967 التي مرغت الكرامة العربية في الأوحال. ومع إصرار السلطة اللبنانية على محاصرة الفلسطينيين، وملاحقة الحركة الشعبية المطالبة بالتطور والإصلاح ودعم المقاومة، احتقنت الأجواء وأصبح كل طرف متمسكًا بمطالبه ومستعدًّا لاستقبال الدعم الخارجي  وتحسين موقعه في صراعات المنطقة، لا سيّما أنّ الجانب الفلسطيني ـ وقد كثرت اخطاؤه الميدانية وازداد تورطه في الشؤون اللبنانية - أصبح مكشوفًا في ظل تنصّل الأنظمة العربية من تعهداتها تجاه القضية الفلسطينية. ومن خلال هذه الثغرات انفجرت الحرب اللبنانية التي سرعان ما تحولت إلى سجال دون افق نظرًا لتشعبها عربيًّا ودوليًّا.
 وإذ شعر العرب من خلال جامعتهم بخطورة الأمر على لبنان والمنطقة أطلقوا مبادراتهم التسوويّة التي اخفقت غير مرة قبل ان يتمّ التفاهم على تكليف سوريا عربيًّا ودوليًّا الدخول إلى لبنان ومنع التقسيم، واستعادة الاستقرار، والحفاظ على النظام اللبناني. وقد دخل السوريون في لحظة حاسمة حيث كانت القوى الوطنية، مدعومة ببعض القوى الفلسطينية، على وشك استعادة مواقعها الستراتيجية في جبل لبنان – جبل صنين ومنطقة أعالي المتن الشمالي – وعقد محادثات مع الجبهة اللبنانية من موقع قوي توصلًا إلى اتفاق يفتح طريق السلام وبناء الدولة على أسس متكافئة.
 أدّى الدخول السوري الذي استقبله الفريق الانعزالي بالترحاب إلى انتكاسة في الاوساط الوطنية وإلى تصلب التيار الانعزالي الذي اعتقد بان المعادلة العربية الدولية انقلبت لمصلحته. 
 استمرت الأجواء في الاحتقان ولم يتمكن السوريون من تحقيق كل الأهداف التي دخلوا من أجلها. أمّا "إسرائيل" فقد هددت بحروب إذا تجاوز السوريون صيدا وراشيا، في حين انحرف نظام السادات عن خط الجامعة العربية وعقد معاهدة مذلة مع العدو الإسرائيلي، فيما بدأ التيار الانعزالي يتعرّض للسوريين بدفع من واشنطن وتل ابيب  مما جعل الأمور تراوح وتتهافت مصحوبة بأخطاء قامت بها قيادات سورية في لبنان ( التقرب من الجبهة اللبنانية، التعرض للقيادات الوطنية، الانغماس في الشؤون اللبنانية الداخلية والاقتصادية) شبيهه بأخطاء الفلسطينين مما دهور الأوضاع وكشف الجميع.
 ولما شعر السوريون والفلسطينيون ومعهم الوطنيون اللبنانيون ان الوقت قد حان للمراجعة والاستعداد لمواجهة الخطر "الاسرائيلي" الماثل شنت "تل ابيب" حربها الضاربة على الجميع فكانت معارك بيروت  وخلده وعين دارة والبقاع الغربي المجيدة التي أرست مبدأ المقاومة وأهميتها وأحدثت توازنًا جديدًا على الأرض برغم الاختراقات الكبيرة التي حققها جيش العدو بقوته النارية ومناوراته التي جعلته يدخل قصر بعبدا ويشرف على انتخابات رئاسة الجمهورية. 
 ومع اشتداد المقاومة الوطنية والإسلامية بدأت قوات الاحتلال تتراجع مثيرة الفتن بين أبناء الوطن الواحد إلى ان حشرت هذه القوات في الجنوب والبقاع الغربي وحوصرت من قبل جماهير المنطقة ومقاومتها .
 وبعد تعثر التفاهم اللبناني - اللبناني تدخلت الجامعة العربية مره اخرى وبمساعدة سوريا انعقد مؤتمر " الطائف " عام 1989 الذي اوقف الحرب وانعش بنية النظام اللبناني التقليدي، وابقى على جوهره الطائفي، وسحب قسمًا من صلاحيات رئيس الجمهورية ووضعها بيد مجلس الوزراء. وعلى الرغم من مرور 27 سنه على انعقاد "الطائف" لا زال الاتفاق موضع 
نقاش ونقد، خصوصًا أنّه لم يطبّق بكامله بحيث ظهر عاجزًا عن حل مشاكل السلطة أو إعادة تكوينها عبر قانون انتخاب عصري يليق باللبنانيين. 
 وقد ظهر انكشاف الطائف بعد رحيل السوريين الذين كانوا يملأوون الفراغ بالتدخل للمصالحة وإيجاد المعادلات الممكنة كلما اختلفت اجنحة السلطة - أو الطوائف بالأحرى - حيال القضايا المهمة التي كانت تطرأ، تلك الصراعات التي كانت تنشب، وتعجز السلطات المنتخبة عن حلها، كانت تتحول في معظم الأحيان إلى صراعات طائفية مباشرة ومكشوفه تهدد بعودة الصراع الأهلي لولا تدخلات عربية ودولية كانت تتوصل في آخر لحظة إلى تفاهمات تقي البلاد شر البلية رغم تعطل الانتخابات الرئاسية مرارًا ، وتعذر تشكيل الحكومات إلّا بشق النفس، مع العجز عن ابتكار قانون للانتخاب .
وحتى اليوم لا زال الاحتقان الطائفي موجودًا وكأنّه احتياط بيد النافذين لاستخدامه ورقة في حروب المحاصصة والإملاء وإن كان النضج الشعبي أصبح يشكل سدًّا بوجه القيادات الطائفية ومطامعها التي لا تقف أحيانًا عند حد. 
الطائفية في لبنان : حقائق ومدلولات 
 الطائفية في لبنان هي، بالدرجة الاولى، منظومة دينية سياسية اجتماعية تربوية متكاملة، لها حصانتها وعلاقاتها، لا سيما على الصعيد السياسي، حيث كل مؤسسة تسعى للحفاظ على ما لديها من حقوق وامتيازات، وحيث تسعى في الوقت نفسه لزيادة الحيز الذي تشغله داخل المجتمع ومراتب السلطة السياسية الموزعة أصلًا بين الطوائف على قاعدة العدد، ولاحقًا على قاعدة التعاهد دون العودة إلى التعداد الطائفي، هذا التعداد الذي تغير كثيرًا وأصبح مختلًّا لصالح المسلمين. على أنّ ذلك التعاهد وإن كان يؤمّن الاستقرار، وفقًا لما نصّ عليه الطائف عام 1989 ، فإنّه لا ينفي قيام حالة ربط نزاع اليوم بين مختلف الأطراف مما يطرح امكانية فتح الباب، ولو افتراضيًّا، لتعديل الصيغة مستقبلًا ممل يجعل السلم الأهلي هشًّا ومحتاجًا بشكل دائم إلى رسائل التطمين وخطوات التثبيت .
والطائفية في لبنان هي أكثر من حالة اجتماعية سياسية، إنها جوهر النظام السياسي. ويعود ذلك إلى حضورها الدستوري والقانوني وتأثيرها البالغ عبر مؤسساتها المتعددة في كل مناحي الحياة الخاصة والعامة. فاللبناني يولد في موقع طائفي، ويعيش في مناخ طائفي، ويتزوج وينجب ويموت في اطار طائفي. وهو على العموم، غير موجود قانونيا وحتى اجتماعيا إلّا من خلال الطائفة التي يولد في رحابها ويتأهل تحت رايتها ويرث ويورث في ظل تنظيماتها.
كما أنّه لكل طائفة كتاب، وكيان، وقضاء روحي، ومدرسة وجامعة ومصرف ومركز ثقافي ومركز أبحاث ودار نشر وصولًا إلى الجمعيات الخيرية والاجتماعية والطبيّة فضلًا عن النوادي الرياضية والدينية .
الطائفية هي ظاهرة تاريخية اجتماعية دينية حاضرة بقوة في مجتمعنا وتلعب دورًا كبيرًا في وعينا وعلاقاتنا وثقافتنا لا سيما أنها بطبعها حصريّة وتقسيميّة وتمييزيّة. 
فقد أصبحت الطائفة بالنسبة لكثيرين في لبنان هي البداية وهي النهاية، وهي دورة الحياة المتكاملة، إلى درجة أنّ بعض الغلاة اعتبر طائفته قومية قائمة بذاتها كونها عاشت تجربة إيمانية تاريخية ثقافية شبه مستقلة .
وتختلف أطراف الطبقة السياسية اللبنانية حول العديد من المسائل المتعلقة بالنظام السياسي، لكنها لأسباب كثيرة أصبحت مرتبطة، وحتى متمسكة، بهذا النظام الطوائفي الذي يؤمن لها مكاسب ذاتية مقابل أضرار جسيمة يلحقها بالبلاد، إذ بات هذا النظام سببًا في تعطيل مسيرة الدولة وتفجير الأزمات الدورية، وزرع اليأس بين الناس من إمكانيّة تحسين أداء الدولة التي تحولت إداراتها إلى حصون ومزارع فئوية. لذلك نرى هؤلاء الأطراف، بمعظمهم، يتحدثون عن أهمية الغاء الطائفية السياسية وعندما تاتي ساعة القرار يتنصلون من مواقفهم متذرعين بمختلف الحجج، فمنهم من يقول: "يجب أولا ازالة الطائفية من النفوس قبل النصوص"، ومنهم من يقول: "ان الظروف التي تمر بها البلاد والمنطقة غير مؤاتية لهذا القرار الكبير الذي يمكن أن يثير المخاوف لدى البعض". على أنّ الكثير من هؤلاء يعتبر أنّ التعددية الطائفية هي السبب الرئيسي في ثبات النظام الديموقراطي البرلماني الذي يميز لبنان عن باقي المنطقة، متجاهلين أنّ هذا النظام "الفريد" الذي سجن لبنان في أغلال الانقسام والعجز إنما هو بحاجة دائمة إلى رعاية المشكو منهم (أي العرب) لرأب الصدع وتأمين المصالحات الموسمية .
 ومن أخطر الظواهر التي يعاني منها لبنان استمراء الجماعات الطائفية وزعاماتها الوضع الراهن الذي تتمتع فيه بالنفوذ والسلطان. أما الأخطر من ذلك فاستمرارها في تجويف الدولة من مؤسساتها، وتدمير الحياة اللبنانية المشتركة، وتحويل المجتمع فعلا إلى فدرالية طوائف، حيث كل طائفة تنظر إلى أختها بعين الشك والحسد، مع ما يعنيه كل ذلك من مخاطر جسيمة على منظومة العلاقات الداخلية ووحدة البلد وحيويتها في لحظة عصبية تستوجب تجاوز هذه الآفة، وتعزيز مناعة المجتمع بوجه الانقسام والغلو، وتقوية الدولة ومؤسساتها المركزية كي تقوم بواجباتها في جبه الأخطار التي تهدد البلاد.
اللبنانيون وإن أصبحوا مؤخرًا يعلنون انتماءهم للبنان كوطن نهائي إلّا أنّهم لأسباب تاريخية متعدّدة ينتمون إلى ثقافات مختلفة وعوالم مختلفة. لذلك تعذر عليهم تاليف كتاب تاريخ موحد تلتزم به المدارس الرسمية، كما تعذر عليهم ان ينصهروا في بوتقة وطنية واحدة متعددة المعالم والأهداف بحيث يمكنهم تأمين إجماع وطني في ظروف حاسمة وأحيانا مصيرية كما حدث في أثناء الغزو "الاسرائيلي" عام 1982، أو كما حدث في أثناء العدوان الإسرائيلي على المقاومة عام 2006 عندما قامت فئات سياسية بمحاصرة المقاومة سياسيًّا واتهامها بمصادرة قرار الحرب والسلم وتوريط البلاد، في وقت كانت فيه المقاومة تقوم بابسط واجباتها في التصدي للعدوان الصهيوني الذي لا زال يحتلّ قسمًا عزيزًا من بلادنا، ولا زال يحلم بالانتقام من الهزيمة التي لحقت به في لبنان على اليد المقاومة والجيش والشعب. وكل الأحداث الكبرى التي يعيشها لبنان تبرهن أنّ الطائفية في لبنان واقع حي يتحكم بحياة المواطن والأسرة والدولة، ويطبع حياتنا بمعظم تفاصيلها، حيث لكل طائفة هواجسها وإعلامها وزعماؤها وأحزابها وجمعياتها تنغلق فيها وتتحصن بها. ولا غرو، فالطائفية تطل برأسها كلما عمد البعض إلى تحويل الرؤية الدينية الأخلاقية إلى مؤسسة سياسية اجتماعية تحمل اجتهاداته وتلبي طموحاته. 
 ومن مساوِئ الطائفية الانغلاق على الذات، والتركيز على الأهداف الخاصة وتخطي المشتركات وإن كانت على مستوى وطني بالغ. وكلما نشطت طائفة باتجاه تحركت طوائف أخرى باتجاه مغاير لتمييز نفسها وتاكيد وجودها، فتنتصب المتاريس الافتراضية، وتنشأ الحواجز النفسية في كل مكان: في الحكومة، في المجلس النيابي، في الإدارة، في الشارع مع ما يرافق ذلك من انفلات خطر، وتنافس حاد، وتراشق علني، واتهامات مبطنة حيث الخوف يسكن الجميع، وحيث الشك سيد الموقف.
 وتستفيد هذه القيادات من الحصانة الدستورية للنظام الطائفي لإحكام سيطرتها على جماعاتها، والقبض على مفاصل الدولة، والاشتراك في البازار السياسي والاقتصادي على قاعدة المحاصصة. ولذلك يتحدث كثيرون عن الغاء المادة 95 من الدستور فيما هم يضمرون العكس. ويحضر الخطر هنا حين يتماهى الموقف السياسي مع الموقف الطائفي فيلوح الانقسام، وتسود قيم ما قبل الدولة، وترتد الجموع إلى المواقف البدائية. ويتضاعف هذا الخطر عندما تنشأ مصالح ضالعة حول النظام الطائفي فتستمرئ القيادات الطائفية الوضع القائم، وتمعن في تجويف الدولة، وتدمير أسس الحياة الوطنية، وتحويل الطوائف إلى كيانات متناحرة في لحظة عصيبة تستوجب تعزيز مناعة المجتمع وتقوية مؤسسات الدولة السياسية والعسكرية والأمنية. 
مخاطر الطائفية وتداعياتها 
من شأن الشعور الطائفي، اذا انتقل إلى الحيز السياسي العام، أن يعرض وحدة الدولة والمجتمع إلى الخطر، خصوصا عندما تصبح الطائفة، بنظر البعض، تشكيلًا قوميًّا وما يستتبع ذلك من تصورات وتخيلات ومطالب قد تصل أحيانا إلى طرح الفدرالية او التهديد بالانفصال مما يزعزع الوحدة الداخلية، ويستنزف الجهود، ويثير الصراعات ويفتح ثغرات تنفذ منها المشاريع المعادية التي تتربص شرا بالامة العربية واقطارها .
كما أنّ الوضع الطائفي، المرتبط بقيادات نزقة أو مرتبطة بالخارج، يمكن أن يفضي إلى مضاعفات خطرة اذا استُجيب لضغوط هذه القيادات، كما يمكن في حال التصدي لها أن يؤدي إلى تعميق التناقضات الداخلية وتحويلها إلى كتلة قابلة للاشتعال في أي لحظة، لذلك من الأهمية بمكان إدراك حساسية الطرح الطائفي، وأهمية العمل على تنمية واحتضان أوضاع ذاتية ايجابية داخل الطوائف نفسها، قادرة وراغبة في آن على تبني الطروحات الوطنية ومحاربة الجموح داخل طوائفها.
 ان النظام السياسي المبني على أسس طائفية يستحيل عليه تأمين العدالة لانّه يسقط الكفاءة لصالح المحسوبية ونظام الامتيازات. ومن الطبيعي ان يأخذ هذا النظام بنهج المحاصصة فيعين المتملقين وينحّي المستحقين مما يفرغ الإدارة من عناصر القوة، ويجعلها كيانًا هزيلًا ومطيّة لأصحاب النظام الذين تتركز توجهاتهم على مراكمة الثروة والنفوذ، وليس على تطوير الدولة وخدمة المجتمع.
 إنّ النظام الطائفي هو البيئة المثلى لنمو كل اشكال الفساد، حيث تضيع فيه القيم الموضوعية وتنمو فيه قيم الاستتباع والانحطاط المعادية لمفهوم الدولة الحديثة.
 إنّ الطائفية تجارة رابحة لأهل الحل والربط ممن أعمت أبصارهم الثروات الحرام. فمن خلال الطائفية والعزف على أوتارها يمكن لهؤلاء تأمين الحشود لدعم قضايا، هي بالعمق، تخصّهم وتعود عليهم بالربح الوفير فيما يظهّرونها أمام الرأي العام، بفضل حذاقتهم، وكأنّها قضايا عامة ينبغي الدفاع عنها تحت لواء الطائفة ومن أجلها.
ومن أخطر تداعيات الطائفية، أنّها تملك القوة لتغييب أدوات تقييم الأداء والمراقبة والمحاسبة، حيث يعتبر أهل النظام أنّ الأمور المتعلقة بأموال الدولة تعود لهم ومن حقهم بالتالي التصرف بها وحدهم وذلك على أساس المحاصصة، ومن دون حاجة لهيئات رقابة جرى تهميشها بشكل منهجي، حتى لم يعد لها أيّ تأثير فعلي على سير الأمور. وأبلغ دليل على ذلك الصفقات الكبرى والصغرى المتعلقة بالكهرباء والتي لا علاقة لها بالمناقصات القانونية الشفافة، وإنّما تخضع لتفاهمات ضمنيّة بين أطراف السلطة، وإن كلفت هذه التفاهمات الخزينة مئات ملايين الدولارات أو زادت الدين العام مليارات الدولارات.
 ولعل ما حصل بالامس من هندسة مالية لا سابق لها طلع بها البنك المركزي، حيث تم "توزيع" ما يزيد على خمسة مليارات دولار بشكل كيفي على عدد من المصارف اللبنانية هو برهان ساطع على تخطي الحاكم للسلطات الدستورية، والتصرف بالمال العام دونما رقيب أو حسيب، سوى الادعاء بأنّ هذا الإجراء كان لا بد منه لتعزيز الاحتياط الأجنبي لدى البنك المركزي وتأمين سلامة المصارف اللبنانية التي واجه بعضها صعوبات، علما أنّ أي مصرف يتصرف وفقًا لقانون النقد والتسليف لا يمكن أن يخسر إطلاقا وإنما تأتي الخسارة من خلال المضاربة أو الاختلاس أو الاستثمار خارج العمليات التجارية المرتبطة بضمانات، وهي كلها يحذر منها ويرفضها هذا القانون.
 وما يثير التساؤل ويدعو للاستغراب أنّ المجلس النيابي يتصرف اليوم كما مجلس الوزراء، إذ يمتنع عن البحث في هذا الإجراء الذي ليس له سند قانوني، رافضًا مساءلة "الحاكم" عن هذا الإجراء، أو سؤال الحكومة عن حقيقته، في وقت يصرف فيه هذا المجلس مئات الساعات بحثًا في سلسلة الرتب والرواتب من دون بتّها، وهو يعلم تمام العلم أنّ أصحاب الدخل المحدود من المعلمين والموظفين والعسكريين والمتقاعدين هم بأشد الحاجة لهذه السلسلة التي ينتظرونها لمواجهة متطلبات الحياة بأدنى مستوياتها. أما الأغرب في الامر فهو موقف جمعية المصارف التي تضغط بكل الاتجاهات لإعفاء المصارف من دفع الضرائب المتوجبة على الارباح "المفاجئة" التي حققتها من الهندسة المالية المبتكرة .
 وعندما يسقط النظام في شبكة الفساد وتنشأ المصالح الضالعة، فمن الطبيعي أن تقوى النزعة لدى المتسلطين لتأييد هذا النظام ومقاومة أيّ نزعة للتطوير، مما يولد حالة من الجمود والتحجر والديكتاتورية المقنعة التي تستطيع أن تحول أي صراع اجتماعي أو ديموقراطي إلى صراع طائفي يقف سدًّا قويًّا بوجه التغيير.
 وفي هذا السياق تحول الطائفية دون العبور إلى الدولة الحديثة التي يحتاج إليها المجتمع لاستيعاب الظروف الطارئة ومجابهة التحديات المستقبلية التي تحتاج إلى مرونة شديدة، وعلم غزير، ورغبة في العمل والإنتاج، وكلها صفات يصعب توفرها لدى الطائفيين الذين يخافون فتح النوافذ للهواء النقي. 
 وبهذا المعنى لا ينتظرن أحد من النظام الطائفي تنمية الحياة الديموقراطية أو إعلاء شأن القانون، وهو النظام الذي لا يكترث أصحابه لوحدة الدولة والمجتمع حتى في أصعب الظروف التي يواجه فيها بلدهم أعلى درجات العنصرية الصهيونية وأعتى جماعات العنف والتطرف. 
 وعندما يسود النظام الطائفي في البلاد فلا عجب أن تسقط بعض المؤسسات الطائفية على الطريق، فيما هي تظن أنّ هذا النظام هو الضامن لوجودها. فمن طبيعة هذا النظام أن يأكل أصحابه في نهاية المطاف، ذلك أنّه يغذي الخوف لدى كل طائفة، وينتقل بالعلاقة بينها وبين أي طائفة أخرى، في لحظة، من حال التقاسم إلى حال التنابذ، لا سيما عندما يرى قادة الطائفة مصلحة لهم في إذكاء الشعور الطائفي لتوحيد الأتباع واستخدامهم في معاركهم ضد الطوائف الأخرى أمّا لزيادة حصتهم في السوق، أو دفعًا لملاحقة قانونية قد يتعرضون لها .
سبل المواجهة
في سياق ما يشتعل في المنطقة من حروب وتهجير وفرز سكاني، وما يرسم لها من مشاريع تقسيمية تبدو الظاهرة الطائفية بمثابة الاحتياطي الكبير، لا بل الأداة الرئيسية لتحقيق هذه المشاريع المعادية التي تقض مضاجع الجميع، وفي مقدمها الجماعات الطائفية المختلفة التي تنام وتصحو مع هواجسها؛ إذ تسأل مع سواها عن مآلات التفكيك الحاصل، وكيفية إعادة تركيب الدول والانظمة، ومن سيكون الخاسر، إلى ما هنالك من أسئلة مصدرها القلق على المصير في زمن التطرف الأعمى، والعنف الأقصى الذي يكاد يصرف الأنظار عن الظلم التاريخي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ مئة عام على يد الإرهاب الصهيوني. 
 واذا كان استخدام المنهج الطائفي في إدارة الأمور السياسية والاجتماعية يفيد الزعماء لمرحلة ما، فأنه على الصعيد العام غالبا ما يؤدي إلى مضاعفة المشاكل لا حلها، لانه في مسار الاستخدام يحرك هذا المنهج العصبيات الطائفية لدى الآخر، ويعطل المنطق، ويزيح الاعتبارات الموضوعية، ويلغي أسس الدولة الحديثة فيخسر الجميع في نهاية المطاف إلّا قلة لا تعرف الحلال من الحرام. لذلك من المفيد جدًّا كشف هذا النهج الذي يعتمد الانتهازية السياسية، وتعرية أصحابه، وتثقيف الأجيال الصاعدة على المنهج العلمي الموضوعي الذي يحترم الانسان، ويعترف بالحقائق ويسعى للتغيير عبر الوسائل الديموقراطية .
 وانطلاقا من ذلك نرى أهمية قصوى للعمل على المسارات الاتية:
- العمل على تفكيك المفهوم الطائفي وإبراز تهافته وتبيان مخاطره