www.arabnc.org
   
الصفحة الرئيسة
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
المشاركون في الدورة ا
المشاركون في الدورة ا
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول المشاركين 30
جدول المشاركين 31
الأول 1990
الثاني 1991
الثالث 1992
الرابع 1993
الخامس 1994
السادس 1996
السابع 1997
الثامن 1998
التاسع 1999
العاشر 2000
الحادي عشر 2001
الثاني عشر 2002
الدورة الطارئة 2002
الرابع عشر 2003
الخامس عشر 2004
السادس عشر 2005
السابع عشر 2006
الثامن عشر 2007
التاسع عشر 2008
العشرون 2009
الواحد والعشرون 2010
الثاني والعشرون 2011
الثالث والعشرين 2012
الرابع والعشرون 2013
الخامس والعشرون 2014
السادس والعشرون 2015
السابع والعشرون 2016
الثامن والعشرون 2017
التاسع والعشرون 2018
الثلاثون 2019
الواحد والثلاثون 2022
القائمة البريدية
بحث
تصغير الخط تكبير الخط 
المشهد السياسي 28 ((المشهد السياسي 28))
المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE

التوزيع: محدود
الرقم: م ق ع 28/وثائق 5
التاريخ: 12/5/2017
ـــــــــــــ
المؤتمر الثامن والعشرون، 12 – 13 أيار/مايو 2017، بيروت - لبنان

التحوّلات العالمية والإقليمية والمشهد العربي**

د. زياد حافظ *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأمين العام للمؤتمر القومي العربي.
*ورقة قدّمت للمؤتمر القومي العربي في دورته الثامنة والعشرين في بيروت في 12 و13 أيار/مايو 2017، كتقرير سياسي عن التحوّلات في العالم والوطن العربي.

التحوّلات العالمية والإقليمية والمشهد العربي

زياد حافظ
الأمين العام للمؤتمر القومي العربي
12 – 13 أيار/مايو 2017

مقدّمة
هذه الورقة مبنية على ما قدمّناه في الدورة السابعة والعشرين للمؤتمر القومي العربي التي عقدت في الحمامات في تونس في نيسان 2016 ولاجتماع الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي في بيروت في تشرين الأول 2015 واجتماعها في بيروت في تشرين الثاني 2016. فهذه الورقة تشكّل الجزء الرابع من رباعية تعبّر عن مقاربة للوضع الدولي والإقليمي والعربي بأبعاده الفكرية والسياسية والاقتصادية والجيوسياسية. الورقة التي قُدّمت في اجتماع الأمانة العامة في تشرين الأول 2015 عرضت مقاربة للمشهد الدولي والإقليمي والعربي مع مواطن الضعف والقوة لكل دولة. أما الورقة التي قُدّمت في دورة حمامات في نيسان 2016 عرضت مقاربة حول منطق الصراعات في الوطن العربي. وما زال ما جاءت به الورقة صحيحا أي أن المشهد العربي يحكمه صراعات بين سياسة تابعة للهيمنة الغربية وسياسة مقاومة لها. الورقة التي قُدّمت في اجتماع الأمانة العامة في تشرين الثاني 2016 استكمال للورقتين السابقتين وركّزت على المستجدّات. أما الورقة الحالية فتبحث في جذور التحوّلات ومظاهرها مع إلقاء الضوء على بعض المستجّدات التي اعتبرناها مفصلية. لا يخلو ذلك من بعض الاستنساب غير أننا نعتبر ما نقدّمه قد يصلح لمناقشة عامة لكافة القضايا التي يعتبرها أعضاء المؤتمر تستحق النقاش.
لقد أشرنا في الأوراق السابقة أن المشهد الدولي يتميّز بمسار تراجعي لقوى كانت تتحكّم بالمسار العالمي، أي الغرب، ومسار صاعد لمجموعة دول كانت في مرتبة أدنى لكنها استطاعت أن تفرض واقعها وتتصدّى لهيمنة الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص. وعندما نتكلّم عن الغرب نقصد بشكل رئيسي الولايات المتحدة وإلى حدّ ما الاتحاد الأوروبي ومن داخل الاتحاد الأوروبي ثلاث دول: المانيا، المملكة المتحدة، وفرنسا لما لها من تأثير مباشر وإن كان محدودا على مسار الأمور في الإقليم. أما فيما يتعلّق بالمحور الصاعد فهو محور دول البريكس الذي ستنضم إليه دول محور المقاومة في تقديرنا في وقت لاحق.
منذ ذلك التاريخ شهد العالم بعض الأحداث التي تصبّ في صلب التحليل الذي قدمناه خاصة فيما يتعلّق بالضعف البنيوي في الاتحاد الأوروبي وما أفضت إليه نتائج الاستفتاء البريطاني للخروج من الاتحاد. كما أن موجة الاحتجاجات المتصاعدة داخل دول الاتحاد الأوروبي أكدّت على وجود أزمة حكم إن لم تكن أزمة نظام تفرض إعادة النظر بالمنظومة الأوروبية. أما في الولايات المتحدة فانتخاب دونالد ترامب أربك النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وفي أوروبا ومازالت تداعياته تتفاعل حتى الساعة. أما على الصعيد العربي فالمشهد الميداني في كل من العراق وسورية يشير إلى انحسار استراتيجي لجماعات التعصّب والغلو والتوحّش. وفي لبنان، ونتيجة للتطوّرات الميدانية في سورية وتغيير موازين القوة إقليميا وعربيا استطاع لبنان أن ينتخب رئيسا للجمهورية بشخص العماد ميشال عون.
هذه التحوّلات لم تأت بشكل مفاجئ ولم تأت من الفراغ. فهي تداعيات الحرب الباردة خلال النصف الثاني من القرن الماضي وما أفرزته من نتائج على البنية الفكرية في الغرب. فنهاية الحرب الباردة بين المعسكر السوفيتي والمعسكر الغربي أوجدت دينامية جديدة جذورها تعود إلى الستينات من القرن الماضي وتتجسّد اليوم في أزمة فكرية وسياسية واقتصادية على الصعيد العالمي. فمازال مبكرا التكلّم عمّا ستفضي إليه الأمور لتعقيد وتركيب المشهد الدولي والإقليمي على حد سواء. لكن لا بد من تفكيك مسار المشاهد وإن في لمحات سريعة في محاولة لفهم ما يجري ولاستشراف قدر الإمكان المستقبل. فالترابط بين ما حصل في الماضي القريب واللحظة الراهنة يساعد على استشراف المستقبل ليس من باب حتمية تاريخية غير موجودة في الأساس بل من باب فتح الآفاق والإمكانيات والخيارات. من جهة أخرى فما كان صائبا في التحليل في الحقبات الماضية لم يعد قائما اليوم. وهذا صحيح ليس فقط عند النخب العربية المتغرّبة والتي تبنّت منهج التفكير الغربي ولكن أيضا عند النخب الغربية نفسها. فهناك من لم يستطع التخلّص من اعتبارات الحرب الباردة إما عن عجز في التفكير أو بسبب مصلحة خاصة، والأرجح للسبب الأخير. وكذلك الأمر فيما يتعلّق بأدوات التحليل التقليدية التي تأخذ بعين الاعتبار مفاهيم ك "المؤسسات" والعلاقات بينها دوليا وإقليميا وعربيا أو المرتكزات الفكرية لتلك الأدوات سواء كانت ليبرالية أو نيو ليبرالية أو يسارية. هذا يتماهى مع ندعو إليه باستمرار حول ضرورة إيجاد منظومة معرفية عربية في العلوم الاجتماعية نابعة من واقعنا وتراثنا وتحاكي طموحاتنا. 
فعلى سبيل المثال ما زلنا نحلّل العلاقات السياسية بين الدول على قاعدة الدولة الأم. فهذه القاعدة اهتزّت خلال حقبة العولمة المتفجرة بعد نهاية الحرب الباردة في مطلع التسعينات من القرن الماضي التي شهدت هيمنة شبه مطلقة للولايات المتحدة، وهيمنة الشركات المتعدّدة الجنسية والعابرة للقارات، ونشأة وتطوّر مؤسسات عابرة للدول، وتراجع السياسات الوطنية لصالح عولمة لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعوب والهويات الوطنية والخصوصيات الثقافية. فالعولمة التي تنادي بها قوى تزعم أنها ليبرالية تهدف إلى إضعاف الدولة المركزية في الدول التي انتهجت نموذجا ديمقراطيا، وذلك بسبب الثغرات البنيوية في ذلك النموذج الذي سمح التسلّل لقوى خفية من عالم المال ولا تدين بالولاء لأي شيء غير مصالحها. وهذه القوى الخفية تتستّر وراء ما يُسمّى بالدولة الخفية لمحاربة أي مجهود تغييري أو إصلاحي. لذلك شهدنا تردّي النخب الحاكمة الديمقراطية التي ساهمت في إضعاف الدولة عبر تفكيك القيود الناظمة وعبر محاولات تفكيك دولة الرعاية. هذا ما نشهده في العديد من الدول الغربية وحتى في المنطقة العربية.
غير أن هذا التقدّم للعولمة خلق ردّة فعل نشهد هذه الأيام مظاهرها من صعود حركات وطنية متشدّدة ونبذ التجمّعات التي تطمس الهوية الوطنية كمؤسسة الاتحاد الأوروبي. كما أن العولمة تقدّمت على حساب السيادة الوطنية لكل دولة في أوروبا وغير أوروبا مما زاد في حدّة ردّة الفعل عند الدول التي شعرت بذلك الانتقاص من سيادتها ومن طمس لهويتها. وما يدعم هذه القراءة سلسلة كبيرة من مقالات وتقارير وتحليلات في الجامعات وعلى المواقع الإلكترونية نذكر منها على صعيد المثال وليس الحصر طبعا لكثرتها كدراسة اوكسفام البريطانية والموقع الكندي www.globalresearch.ca أو موقع جامعة ايموري الأميركية www.theglobalizationwebsite. 
وردّة الفعل على العولمة تعكس أيضا التحوّلات في بنية النظام الرأس المالي حيث تحوّل الرأس المال من عامل إنتاج إلى عامل مضاربة لجني الثروات الافتراضية وتثبيت قواعد الاقتصاد الريعي الذي يتماهى مع الفساد والانقسامات الداخلية في كل بلد ومجتمع تسهيلا لاستمرار نفوذ النخب الحاكمة. فما يميّز قراءتنا اليوم عن قراءات سابقة هي ربط الصراعات الدولية والإقليمية والعربية بالتحوّلات في البنى السياسية الدولية والإقليمية والتحوّلات في النظام الاقتصادي السياسي العالمي. فمن سمات العولمة ترابط كل شيء بعضه ببعض. فالدولي مرتبط بالإقليمي والمحلّي كما أن الأخير مرتبط بالإقليمي وبالدولي. فحل أزمة النفايات في لبنان على سبيل المثال متوقف على الحل السياسي في لبنان بين القوى السياسية المتنافسة على السلطة والمرتبطة بالمحاور العربية والإقليمية المتصارعة في سورية والعراق واليمن. وهذا الحل يرتكز بدوره على الحل السياسي في بلاد الشام والرافدين، الذي يرتكز إلى الصراع العربي الصهيوني وحل القضية الفلسطينية بشكل يعيد كافة الحقوق للشعب الفلسطيني. والصراع العربي الصهيوني ناتج عن صراع قوى الاستعمار والامبريالية مع قوى التحرّر في الوطن العربي والإقليم والعالم. ويمكن قراءة العديد من القضايا العربية المحلّية من هذا المنظار ما يجعل استشراف مستقبل كل قطر مرتبط بمستقبل العرب كأمة ومستقبل الأمة في العالم. فالواقع هو الذي يفرض وحدة المصير عند العرب وإن غابت الإرادة عند النخب الحاكمة أو الطامحة للحكم!
جذور التحوّلات
ليس من السهل الرصد بدّقة تاريخ التحوّلات. فتعقيد وتركيب العلاقات المجتمعية والدولية تفرض حدّا أدنى من الاستنساب في تأريخ التحوّلات. فهي لا تبدأ في لحظة محدّدة ولا تنتهي بلحظة محدّدة. فالظروف المحيطة بالحدث تجعل من التفاعلات المتعلّقة بالحدث، أي حدث كان، سببا ونتيجة في آن واحد. فهي قصة من يأتي قبل: البيضة أم الدجاجة؟ فأي قراءة نقدّمها قد تكون بطبيعة الحال مجتزأة بسبب عدم إمكانية سرد كل المعطيات وتحديد أهميّتها في بضعة أسطر أو صفحات كما أنها لا تخلو من بعض الاستنسابية. لكن يمكننا إبراز خط بياني يساعد على فهم مسار الأمور.
في رأينا يمكن رصد حقبة التحوّلات إلى أحداث جرت في الستينات من القرن الماضي في الغرب بشكل عام وفي الولايات المتحدة بشكل خاص. شهدت الولايات المتحدّة تحوّلات في النفسية الأميركية نتيجة حادثين: الأول مقتل الرئيس جون كندي والثانية حرب الفيتنام. هذان الحدثان شكّلا صدمة في وجدان الشعب الأميركي أدّيا إلى تمرّد بين النخب المثقّفة في الجامعات وعالم الفن وبين قطاعات من الشعب. فموجة رفض الحرب والالتحاق بالجيش بسبب الخدمة العسكرية الإجبارية دعمها إعلام أدخل ويلات الحرب إلى البيوت. فالولايات المتحدة عاشت بشكل بعيد عن الحروب سواء على أرضها أو في متابعة حروب العالم وإذا يأتي التلفزيون بأخبار الحرب في فيتنام وويلاته بشكل يومي وفي كل منزل. رافقت موجة الرفض للحرب انتفاضة فكرية ضد القيود الاجتماعية فكانت حقبة التحرّر الجنسي وتعاطي المخدّرات والموسيقي الصاخبة. كما أن قمع السلطات لحركات الاحتجاج في الجامعات أدّى إلى سقوط قتلى وجرحى بين الطلاّب. فهذه الاحتجاجات كانت تعبيرا عن الهوّة بين النخب الحاكمة وعن مزاج لقسم من الشعب الأميركي. هذه كانت بشكل مختصر البيئة التي نشأ فيها ما تمّ تسميتهم فيما بعد بالمحافظين الجدد والمتدخّلين الليبراليين. فمعظم رموزهم كانت في تلك الفترة تنادي بأشكال متنوّعة للثورة أو للتغير وكسر التقاليد التي كانت تكبّل حسب رأيهم المجتمع الأميركي.
رافقت هذه الموجة إقرار دولة الرعاية عبر مشروع "المجتمع الكبير" للرئيس ليندون جونسون وحركة الحقوق المدنية. فتفاعل إقامة دولة الرعاية وحركة الحقوق المدنية مع موجة الرفض للحرب في فيتنام خلق ثقافة تمرّد على التقاليد رافقه العنف في الحراك السياسي والاجتماعي ما اسّس لموجة مضادة ظهرت في أواخر السبعينات وتتوّجت بانتخاب الرئيس رونالد ريغان. فالأخير أتى رافعا شعار القانون والأمن وضرورة تفكيك دولة الرعاية لما تفرضه من تضخم دور الدولة وما يرافقه من قيود على الأفراد. وما زالت حتى الآن شعار التيّار المحافظ داخل الحزب الجمهوري الحاكم.
في السبعينات من القرن الماضي تفاقمت تداعيات الحرب في الفيتنام على المجتمع الأميركي وتلازمت مع فساد سياسي أدّى في آخر المطاف إلى تنحّي الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون تفاديا للإقالة والمحاكمة. لكن قبل ذلك حصل تحوّلان أساسيان في السياسة الاقتصادية. التحوّل الأوّل قطع علاقة الدولار بالذهب والثاني ارتفاع أسعار النفط بشكل "مفاجئ" على يد حكومات كانت مبدئيا حليفة أو تابعة أو غير معادية للولايات المتحدة. فشاه إيران وبلاد الحرمين والعراق قادوا حركة رفع الأسعار. والحادثان مترابطان إذ الثاني يفسّر تنامي دور الدولار. رافقت هذه الموجة كل من الجزائر وليبيا. وإضافة إلى ذلك كانت أيضا موجة تأميم إنتاج النفط في الدول العربية التي لم تتمّ خارج إرادة الشركات الكبرى والولايات المتحدة. كان التفكير آنذاك عند الشركات الكبرى أن مسؤولية وملكية آبار النفط كبيرة ولا تجني الأرباح. فالأخيرة كانت في التكرير والتوزيع لمشتقّات النفط التي كانت تحت سيطرتها. حرب أكتوبر وحظر النفط ساعد الشركات الكبرى على تبرير ترك ملكية الآبار للدول المنتجة بينما كانت ممسكة بمرحلة التكرير والتسويق حيث القيمة المضافة والأرباح. لكن بعد حرب تشرين تمّ إخراج النفط من التداول كسلاح اقتصادي وسياسي وتحجيمه إلى سلعة كسائر السلع وإن كان له الطابع الاستراتيجي.
أما نتائج الحدثين فكانت كما يلي: ازدياد الطلب على الدولار بسبب ارتفاع أسعار النفط والتفاهم مع الدول المنتجة بتسعير النفط بالدولار ما جعل الولايات المتحدة تطبع الدولار دون رقابة ومساءلة ومحاسبة. الجدير بالذكر هو تنبّه الرئيس الفرنسي الراحل ديغول لخطورة هيمنة الدولار المتنامية كوسيلة أساسية في المدفوعات الدولية وضرورة الاعتماد على الذهب. فتمّ الإطاحة به في أواخر الستينات تمهيدا للتحوّل المفصلي عام 1971 بقطع علاقة الدولار بالذهب. فتمّ "تحرير" الذهب كسلعة مثل أي سلعة تخضع للعرض والطلب ولم يعد مرجعا وقاعدة للقيمة في التداول النقدي الدولي.  لذلك استطاعت الولايات المتحدة أن تموّل سياساتها الخارجية والداخلية عبر الدولار دون رقابة. من هنا بدأت الهيمنة الأميركية على العالم. 
عامل آخر لم يبرز بشكل واضح في السبعينات ولكنه كان أساسيا متجلّيا في العقدين التالين في قرار إعادة توطين الصناعات التحويلية الأميركية في الدول النامية. فأزمة النفط التي حصلت بسبب حرب تشرين/أكتوبر 1973 ساعدت في تبرير إعادة التوطين خارج الولايات المتحدة تمهيدا للانتقال إلى مرحلة ما بعد الصناعة والتصنيع والتركيز على قطاع الخدمات الذي يحرّر المؤسسات الخدماتية من سطوة النقابات العمّالية. هذا يعني أن تحوّلات في البنية الرأس المالية بدأت تظهر في نقل الرأس المال من عامل إنتاج للسلع والخدمات إلى عامل إنتاج لثروة افتراضية غير مرتكزة على قاعدة إنتاجية حقيقية. هذه التحوّلات مظهرها اقتصادي ولكن طابعها ويقينها سياسي. فالهيمنة كانت الهدف وهذا قرار سياسي بينما الاقتصاد هو التبرير لما هو سياسي ولكن بلغة الأرقام. وبطبيعة الحال فإن التحوّل في طبيعة الرأس المال ودوره الوظيفي أفرز صنفا جديدا في الطبقات الاجتماعية أي المضاربين والمنتفعين من الخدمات المالية. والمؤسسات الحاكمة أصبحت حامية لهذه الطبقة.
ما ساعد في ذلك التحوّل نحو الخدمات المالية الثورة التكنولوجية في التواصل والاحتساب والنقل حيث انفجر قطاع الخدمات من خدمات للقطاعات الإنتاجية إلى قطاع قائم بحدّ ذاته ومستقل عن مصير القطاعات الإنتاجية من زراعة إلى صناعة إلى إنشاءات. كما أن القاعدة الجغرافية لإنتاج الثروة أصبحت ثانوية أمام اعتبارات أخرى. الأدبيات في هذا الموضوع كثيرة وتروّج للمسار الجديد عبر اعتبار "أن العالم أصبح قرية كبيرة" أو أن العالم أصبح مسطّحا وأن الخيارات هي بين التراث والاستهلاك عبر التشبيه الخيار بين شجرة الزيتون وسيارة اللكسس وفقا لمنظّر العولمة الصحافي الأميركي توماس فريدمان. 
في الثمانينات من القرن الماضي برزت ظاهرة النيوليبرالية كرد على "تجاوزات" حركات التحرّر داخل المجتمعات الغربية. فالنيوليبرالية اسم على غير مسمّى. فهي ليست جديدة وليست ليبرالية. هذه الظاهرة رفعت لواء الأمن والقانون وبدأت بتفكيك عناصر القوى المعادية للقوى "المحافظة" كالنقابات العمّالية (سابقا رمز التحرّر للطبقات العمّالية!) وإعادة اعتبار للقوات المسلّحة التي تلقّت ضربة معنوية كبيرة في الفيتنام. في عصر الرئيس الأميركي رونالد ريغان وفي عصر رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر بدأت موجة تفكيك دولة الرعاية وتقديس القوّات المسلحة والأمنية، الدرع الوقائي لطريقة العيش الأميركية والغربية. كان احتلال جزيرة غرينادا من قبل القوّات الأميركية بداية إعادة الاعتبار لها كما كان احتلال جزر الفالكلاند أو الملاوين من قبل المملكة المتحدة كانت تأكيدا أن الموجة السياسية الجديدة ستكون مدعومة بقوّة عسكرية. كان شعار ريغان آنذاك "لنجعل أميركا عظيمة"، شعار ابتكره فيما بعد دونالد ترامب مع إضافة "مرّة أخرى" ما يدّل على اعتراف ضمني لتراجع أميركا في العالم في عهد كلنتون وبوش واوباما.

خلاصة أولية
نستنتج من العرض السريع أعلاه أن جذور التحوّلات بدأت في الستينات حيث الأحداث السياسية خلقت بنية ثقافية متمرّدة على التقاليد تجسّدت في رفض القرارات السياسية للنخب الحاكمة وخاصة قرار الحرب في الفيتنام كما تجسّدت في حركة تحرّر جنسي وثقافي تزامن مع حركة الحقوق المدنية للأقليات العرقية. قرار قطع العلاقة بين الدولار والذهب تزامن مع ارتفاع أسعار النفط الذي ساهم في قرار إعادة بناء الهيكلة الاقتصادية في الولايات المتحدة عبر توطين الصناعات التحويلية في الدول الناشئة. الثورة التكنولوجية في التواصل والنقل سرّعت في مسار ما نسمّيه اليوم بالعولمة حيث الهيمنة الاقتصادية الأميركية جاءت عبر السيطرة على شرايين المال وسيطرة الدولار في التداول النقدي العالمي ما سهّل مهمة تمويل سياسات خارجية وداخلية للولايات المتحدة. فالإمبراطورية الأميركية مبنية على اقتصاد افتراضي مدعوم بقوة عسكرية ذي قدرة تدميرية هائلة ومدعومة بالسيطرة على شرايين التمويل.
هذه التحوّلات أدّت إلى تغييرات هيكلية في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسكّانية والثقافية داخل الولايات المتحدة وداخل الدول الغربية. وهذه التحوّلات جعلت ظاهرة العولمة ببعدها المهيمن لمصلحة الولايات المتحدة ممكنة عبر سياسة تفكيك القيود الوطنية وتجاوز المصالح الوطنية لصالح التجمّعات الكبرى والشركات. كما أن إنشاء منظّمات دولية كالمنظّمة العالمية للتجارة في النصف الأول من التسعينات (بعد انهيار المعسكر السوفيتي)، وترويج سياسة "الشراكة" غير المتكافئة بين الدول الصغيرة والمجموعات الكبرى، أدّت إلى سيطرة شبه مطلقة على مجريات العلاقات السياسية والاقتصادية لمصلحة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. نتذكّر هنا الدعوات لبعض النخب العربية لإقامة "علاقات شراكة" مع الاتحاد الأوروبي والتلويح بهذه الشراكة كجزرة يتم إقرار التبعية للغرب والتهويل بحجبها إذا ما أقدمت الدول الصغيرة على ممارسة "استقلالية" بغيضة!  رافقت هذه التحوّلات ثقافة معادية لمصالح الشعوب داخل الدول الغربية هادفة إلى تفكيك بنى دول الرعاية لمصلحة قطاع خاص يسيطر عليه مجموعة صغيرة من الأثرياء والمتموّلين.
هنا لا بد من إبداء ملاحظة جوهرية. فالغرب الرأس المالي حاول، وبنجاح ملحوظ، أن يحيّد جاذبية الطرح الشيوعي أو حتى الاشتراكي المدافع عن الطبقات الفقيرة عبر تمكين أحزاب غير شيوعية رفعت لواء حماية تلك الطبقات. فكان حزب العمال ينطلق بعد الكساد الكبير في الثلاثينات والحرب العالمية الثانية وكذلك الأمر بالنسبة للحزب الديمقراطي وأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية. وكانت وظيفة هذه الأحزاب الموضوعية محاصرة الأحزاب الشيوعية او اليسارية عبر تبنّي تشريعات ساهمت في بناء دولة الرعاية. عند سقوط الاتحاد السوفياتي تم إبراز "تفوّق" النظام الرأس المالي على نظيره الشيوعي او الاشتراكي على حد زعم بعض المنظّرين كفرنسيس فوكوياما أو حتى الصحافي توماس فريدمان. فتنامت الليبرالية الجديدة حتى عند تلك الأحزاب التي رفعت في المرحلة السابقة لواء دولة الرعاية وحماية الطبقات الفقيرة. فكانت أشرس من طبّق التشريعات والأحكام التي ساهمت في إضعاف دولة الرعاية. فالحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة وحزب العمّال في بريطانيا والحزب الاشتراكي في فرنسا كانوا أكثر تشدّدا من الأحزاب المحافظة في العمل على تفكيك دولة الرعاية. وجود الاتحاد السوفيتي كبح جموح الرأس المالية الغربية ولكن عند سقوطه لم يعد هناك من أي قوّة رادعة لجموح الرأس المالية. الإعلام الغربي المهيمن تمّ تملّكه من الشركات الكبرى والمجموعات المالية المقرّبة من دوائر القرار فساهمت في ترويج النظريات الجديدة للنيوليبرالية.
التداعيات
أولا - التداعيات في البنى السياسية  
النموذج الديمقراطي المعمول به في الغرب يمرّ بأزمة وجودية. الانقسامات داخل المجتمعات الغربية باتت أكثر حدّة عموديا وأفقيا مع تراجع مكانة الدولة المركزية. الانتخابات الأخيرة، سواء كانت رئاسية أو استفتائية أو برلمانية، في عدد كبير من الدول الغربية تشير إلى تزايد موجة الغضب تجاه النخب الحاكمة. وفي معظم الأحيان يكون التصويت "ضد" أكثر مما هو "مع"، أي تصويت سلبي لا يعطي ل "الفائز" تفويضا سياسيا. وينجر ذلك الأمر على دولة مثل تركيا في المشرق وكوريا الجنوبية في شرق آسيا. ففي هذه الدول يتربّع الفساد ويزيد من تسلّط قوى على حساب مؤسسات الدولة والتوازن المفترض بينها. وهناك اهتزازات في دولة كبيرة كالهند والبرازيل تؤكّد أن النموذج الديمقراطي يمرّ بأزمة بنيوية قد تتحوّل إلى أزمة وجودية. من المبكر استشراف مستقبل "الديمقراطيات" ولكن ضمن قوانين اللعبة القائمة لا يمكن استبعاد تشرذم المجتمعات خاصة بين الرافضين لسياسات النخب الحاكمة التي زادت عبر سياساتها في تهميش مكوّنات اجتماعية كما زادت الفجوات الاقتصادية والاجتماعية. فتمركز الثروات بيد القلّة لم يعد يستقيم مع "نموذج ديمقراطي" مما ينذر التوجّه إلى أنماط متعدّدة للتسلّط أو الفاشية وتعاظم دور الدولة الأمنية على كافة الأصعدة. فهناك جهود لاستبدال الدولة العميقة أو الدولة الأمنية بالدولة التقليدية التي لم تعد تصلح لمواكبة مستلزمات التحوّلات التي ذكرناها.
فالبنى السياسية في الدول الغربية وخاصة في الولايات المتحدة محكومة بحزبين رئيسيين، وفي بعض الحالات بثلاثة، يعكسان الخيارات التي يطرحها مشروعان متنافسان. مشروع يدافع على أولوية المبادرة الفردية في القطاع الخاص وتقليص دور الدولة في إدارة شؤون الناس والمتمثّل بالحزب الجمهوري في الولايات المتحدة والحزب المحافظ في المملكة المتحدة والحزب المسيحي الديمقراطي في كل من المانيا الغربية وإيطاليا. بالمقابل كان الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة وحزب العمّال في المملكة المتحدة والحزب الاشتراكي الاجتماعي في ألمانيا الغربية والحزب الاشتراكي في فرنسا ومعه تجمّع للقوى اليسارية يدافع عن خيارات تصبّ في مصلحة المواطنين وعن دور أكبر للدولة في إدارة شؤون الناس وعن تكريس فكرة دولة الرعاية. طبعا هناك فروقات واضحة بين هذه القوى ولكن الخط البياني العريض كان يدور حول تمكين دولة الرعاية وبالتالي دور القطاع العام في إدارة شؤون البلاد. وكان السبب الرئيسي حول تنمية فكرة دولة الرعاية ضرورة منافسة جاذبية الفكر الاشتراكي الذي كان يحاكي أوجاع الطبقات العمّالية من وحشية النظام الرأس المالي، وذلك خاصة بعد حقبة الكساد الكبرى في الثلاثينات وبعد تدمير البنى الاقتصادية لأوروبا بسبب الحرب العالمية الثانية.
فمع سقوط الاتحاد السوفيتي فقدت الأحزاب التي كانت تمثّل الطبقات العمّالية أحد دوافع وجودها في المشهد السياسي حيث أصبح هاجسها الأكبر إن لم يكن الأوحد الرجوع إلى السلطة أو البقاء فيها. ذابت الفروقات الواضحة بين توجّهات الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري في الولايات المتحدة كما ذابت الفروقات بين حزب العمّال وحزب المحافظين في المملكة المتحدة أو حتى بين الحزب الاشتراكي في فرنسا والأحزاب التي تتصارع على حمل لواء أو إرث ديغول. فوصول هذه الأحزاب إلى السلطة لم يمنعها من تبنّي سياسات كانت تطالب بها الأحزاب المنافسة لها. فعلى سبيل المثال كان تفكيك القيود الناظمة في الولايات المتحدة على يد إدارة كلنتون وليست فقط في إدارة ريغان أو بوش الأب أو فيما بعد بوش الأبن. في المملكة المتحدة تبنّى حزب العمّال "الوسطية" وابتعد عن المطالب التقليدية للحزب وحيّد دور ونفوذ النقابات العمّالية بل دعم مصالح المؤسسات المالية. كذلك الأمر في العديد من الدول التي يتحكّم فيها حزبان رئيسيان أو ثلاثة. هذا يعني أن البنية السياسية لم تعد معبّرة عن المصالح العامة بل معبّرة فقط عن المصالح الخاصة. فالاوليغارشية أي حكم الأقلّية المالية، أو حتى البلوطوقراسية أي حكم المال، أصبحت سمة البنى السياسية في الدول الغربية بما فيها اليابان وكوريا الجنوبية.
أما في فرنسا فكانت الصورة مختلفة بعد الشيء. فالتيّار المحافظ الذي تمثّل بالديغولية كان وطنيا قبل أي اعتبار آخر. فلم يتردّد ذلك التيّار منذ عصر ديغول في التصدّي للحلف الأطلسي وهيمنة الولايات المتحدة في الاقتصاد والسياسة الخارجية حتى وصول نيقولا ساركوزي. ومع وصول الأخير إلى الحكم حصلت التبعية المطلقة للنموذج الأميركي. أما الرئيس "الاشتراكي" فرانسوا هولاند فإن سياسته أصبحت نسخة طبق الأصل عن سياسة سلفه ساركوزي في الولاء المطلق للولايات المتحدة بل حتى في المزايدة عليها!  أما المملكة المتحدة فمنذ تاتشر ومع حزب العمّال وحتى الساعة كانت دائما مع سياسات الولايات المتحدة. بالنسبة لألمانيا فمع وصول انجيلا ميركل إلى المستشارية أصبحت المانيا الموحدة جزءا لا يتجزّأ من المنظومة الأميركية رغم فضائح التجسّس والتنصّت من قبل الأجهزة الاستخباراتية الأميركية على المستشارة وحكومتها.
البنى السياسية التي تحكّمت بمصير الدول الغربية منذ نهاية السبعينات حتى اللحظة لم تستطع أن تواكب نتائج القرارات التي اتخذتها. فقرارات المروّجة للعولمة التي دافعت عنها جعلت شرائح واسعة من المجتمعات الغربية تتراجع في مستوى معيشتها (باستثناء المانيا التي توحّدت في مطلع التسعينات). كما أن الانفتاح على الهجرة الوافدة من الدول الإفريقية والآسيوية في أوروبا ومن الدول أميركا اللاتينية في الولايات المتحدة أحدثت تحوّلات في البنى السكّانية هزّت التركيبات القائمة. أما أسبب هذا الانفتاح على الهجرة فيعود إلى تراجع نسبة النمو الطبيعي للسكّان الأصليين وبسبب أن الأعمال التي يقوم بها المهاجرون الوافدون لا يقوم بها السكّان الأصليون. فالحاجة السكاّنية والحاجة الاقتصادية في مرحلة نمو اقتصادي أسسّت لهجرة وافدة دون الانتباه إلى التداعيات الاجتماعية والثقافية. ناهيك أن هذه الهجرة الوافدة لم يتمّ التعامل معها بإنصاف بل بكثير من التعالي والتحقير ما أدّى إلى شعور بالعنصرية المكشوفة والتهميش الاجتماعي. أما في عصر الضيق الاقتصادي أصبحت تلك الهجرة "عبئا" و"مصيبة" اقتصادية واجتماعية استغلّتها النخب الحاكمة لتحويل الأنظار عن إخفاقاتها السياسية.  ومن هنا نفهم كلام سامويل هنتنغتون الذي حذّر من فقدان الهوية الانكلوساكسونية البيضاء البروتستنتية في الولايات المتحدة ونظريته في صراع الحضارات بين الغرب والشرق المسلم والآسيوي.
ثانيا-التداعيات في البنية الرأس المالية
التحوّلات في البنية الرأس المالية التي شهدناها خلال العقود الأربعة الماضية هي نتيجة تلك التحوّلات السياسية وليس العكس. ما نشهده اليوم في أوروبا كما في الولايات المتحدة هو حراك شعبي غير مسبوق وغير منسجم مع الأطر السياسية القائمة. ولا نستبعد تأثير الحراك الشعبي في عدد من الدول العربية على المجتمعات الغربية فيما يحصل فيها الآن من مظاهرات احتجاجية على فساد النخب الحاكمة والحكم وتزايد الفجوات الاقتصادية والقلق الاجتماعي الناتج عنه. فالأحزاب التقليدية الغربية عاجزة عن استيعاب التغييرات في البنى السكّانية كما أنها عاجزة عن التعبير عن مصالح شرائح واسعة من المواطنين. أضف إلى ذلك الأزمة الاقتصادية المزمنة والتي تجلّت في أزمة الرهونات العقارية عامي 2007-2008 ساهمت في تعاظم موجات الغضب والاحتجاج على سياسات أدّت إلى إفقار الناس وتهميشهم. لذلك نمت الحركات الشعبوية الغاضبة من النخب الحاكمة وما زالت الأخيرة حتى الساعة عاجزة عن مقاربة ومعالجة الوضع.
كما أن تفكيك القيود الناظمة أضعفت مؤسسات القانون والعدل وشجّعت على حكم المال والفساد. وتفاديا لغضب الفئات المهمّشة نمت المؤسسات الأمنية الخاصة لحماية الطبقات الميسورة في مربّعات أمنية تحميها بل تعزلها عن سائر الفئات. فالتحوّل السياسي الذي نشهده في الولايات المتحدة هو عسكرة المجتمع وسيطرة أجهزة الأمن على مسار الأمور بحجة حفظ الأمن. فالقمع والتنصّت والرقابة أصبحت الوسيلة الوحيدة الباقية للفئات الحاكمة يؤازرها إعلام مملوك من شركات عددها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة وصاحبة سردية واحدة تغيّب النقد والحقيقة. أصبحت الولايات المتحدة دولة أمنية تحكمها حكومة ظل كما عبّر عنها الباحث توم انجلهاردت في كتابه الأخير "حكومة الظل" التي لا يحاسبها أحد. 
بالمقابل ظهر إعلام موازي عبر الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي يضخّ معلومات ومواقف من الصعب ضبطها أو حتى ضبط إيقاعها ما يزيد البلبلة والخوف عند شرائح واسعة من المجتمع. فالسلطة الرابعة حاملة الوظيفة الرقابية تخسر مصداقيتها يوما بعد يوم بسبب ارتباطها بالنخب الحاكمة وتمركز ملكية الاعلام في عدد قليل من الشركات تابعة بشكل مباشر أو غير مباشر للمجمع العسكري الصناعي. فعلى سبيل المثال كان عدد الشركات التي تملك أكثر من 90 بالمائة من الاعلام الأميركي عام 1983 يفوق الثمانين بينما العدد أصبح عام 2017 لا يتجاوز الخمسة. بالمقابل فإن انفجار وسائل الاعلام البديلة عن الاعلام المهيمن يفتح المجال للفوضى. فبين عدم المصداقية للإعلام المهيمن وفوضى الاعلام الموازي يحتار المرء في تكوين رأي في الأمور العامة ويصبح فريسة للسرديات التي تغذّي الغرائز والعصبيات الفرعية.
هذا التمركز في الإعلام يعكس التمركز لمعظم النشطات في شركات عملاقة ومتعدّدة الجنسية. ومع الثورة التكنولوجية في التواصل والاحتساب والنقل سقطت الحدود السياسية لمصلحة تلك الشركات. فحرّية حركة رأس المال في مراكز القرار السياسي فالاقتصادي والمالي أحدث تطوّرات عميقة في دور رأس المال وطبيعته. ففي القرن التاسع عشر حتى أواخر الستينات من القرن الماضي كان دور رأس المال دورا إنتاجيا. أما اليوم فأصبح عاملا أساسيا في اختلاق ثروات افتراضية مبنية على المضاربات وبالتالي تحوّلت طبيعته من عامل إنتاج إلى عامل ريع. ليس هنا المكان للبحث في العمق في طبيعة ذلك التحوّل لضيق المساحة في هذا التقرير فنكتفي بالإشارة إليه مع التأكيد على دوره المفصلي في اقتصادات دول متقدّمة كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة. هذا لا يعني إلغاء دوره في القطاعات الإنتاجية التقليدية كالزراعة والصناعات الثقيلة والتحويلية بل أن هذه القطاعات أصبحت متأثرة بالتغيير في طبيعة الرأس المال عبر ما يُسمّى ب "الهندسة المالية" وإصدار الأوراق المالية ليس فقط لتمويل تلك المشاريع الحقيقية بل لصنع ثروات افتراضية تطغى على الاقتصاد الحقيقي. فالربح الأساسي الذي يجنيه رأس المال هو عبر الأسواق المالية وشرايين التدفّق المالي والمضاربات.
ثالثا-التداعيات في الولايات المتحدة.
السمة الرئيسية للإدارات الأميركية المتتالية منذ نهاية الحرب الباردة هي الرداءة: الرداءة في الفهم والمعرفة والأخلاق. وهذه الرداءة نجدها في كل الدول التي تتبنّى النموذج الديمقراطي المبني على الرأس المالية المالية وليس الرأس المالية الإنتاجية. فمنذ ولاية كلنتون ومرورا ببوش الابن واوباما واليوم مع دونالد ترامب هناك خط بياني بالتراجع والأفول وقد يصل إلى الانهيار. لقد أشرنا إلى ذلك في كتابات عديدة. أما اليوم فتتأكّد قراءتنا للمشهد الأميركي ورداءة نخبه الحاكمة عندما نستعرض الإدارة الجديدة. 
انتخاب دونالد ترامب كانت ردّة فعل على تجاهل النخب الحاكمة لهواجس شرائح واسعة من الشعب الأميركي. بالمقابل كانت المرشحة الديمقراطية، التي سرقت تسمية حزبها للرئاسة من برني سندرز، مثلّت غطرسة وعنجهية النخب الحاكمة. لم يُنتخب ترامب لأنه الأفضل أو الأقل سوءا من هيلاري كلنتون بل لأنه "غير هيلاري كلنتون". فقطاعات واسعة من ناخبيه صوّتت ضدّها بينما لم تخف كلنتون احتقارها لناخبي ترامب. فكانت هزيمتها حتمية رغم كل ادّعاءات الاعلام المهيمن حول حتمية فوزها. لذلك نعتبر انتخاب ترامب من مظاهر الاحتجاج على التحوّلات في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حصلت في الولايات المتحدة خلال العقود الأربعة الماضية.
ليس المهم بالنسبة لنا ولأغراض هذا التقرير التركيز على شخصية الرئيس الجديد وإن كانت تستقطب معظم التحليلات والتعليقات. فالمهم هو رصد، إذا أمكن، ملامح سياسته الداخلية والخارجية. ففي الأشهر الأولى من ولايته بات واضحا من التعيينات التي أتى بها في إداراته ومن القرارات التي اتخذها أن الاهتمام الأساسي لديه هو المشهد الداخلي في الولايات المتحدة. هناك جدل صاخب في الولايات المتحدة حول هذه السياسات سواء على الصعيد الاقتصادي والمالي أو على الصعيد البيئي أو على الصعيد الحرّيات العامة والدستور. 
أ-الشق الداخلي. فعلى الصعيد الداخلي حاول ترامب منذ اللحظات الأولى بعد تسلّمه الإدارة تطبيق الوعود التي قطعها خلال حملته الانتخابية. فالتعيينات لوزرات الشأن الداخلي كالتربية والبيئة والعدل والمالية تدل على ميل نحو المزيد من النيوليبرالية التي تحدّ من دور الدولة وبالتالي "تجفّف المستنقع" على حد قوله، علما أن "المستنقع هو الدولة العميقة وارتباطها مع المجمّع العسكري النفطي المالي والأمني. فبعض الوزراء لم يخفوا رغبتهم في تفكيك مؤسسات هامة كمؤسسة حماية البيئة. 
فنسرد على سبيل المثال وليس الحصر بعض الأسماء الملفتة لعدم صلاحها للمهام التي أوكلت بها. فوزير البيئة سكوت برويت قاضى عدّة مرّات الوكالة نيابة عن شركات الطاقة والفحم وتعهّد بتفكيك الهيئة الناظمة لتلك الوكالة، أي اليوم الذئب أصبح مولجا بحماية الخرفان!  أما وزير العدل جيف سيشونز، وهو الشيخ السابق من ولاية الاباما الجنوبية فهو معروف بمواقفه العنصرية. فكيف يمكنه أن يطبّق العدالة بين المواطنين؟ وعلى صعيد وزارة التربية فتعيين المليارديرة بتسي ديفوس من ولاية ميشيغان حيث ترأست لجنة الحزب الجمهوري، فهي تدعو إلى تخفيف الدعم الحكومي للمدارس والتركيز على المدارس الخاصة علما أن خبرتها في الموضوع محدودة. أما وزير الإسكان فهو المنافس الأساسي لدونالد ترامب في مرحلة الانتخابات البدائية وهو طبيب جرّاح للأعصاب ولا خبرة له لا في الإدارة العامة ولا في شؤون الإسكان. ووزير الطاقة ريك بري المرشح السابق لتسمية الحزب الجمهوري وحاكم ولاية تكساس الأسبق والمعروف عنه بالتهديد بانفصال تكساس عن الدولة الاتحادية، فهو قريب جدّا من شركات الطاقة. والسؤال كيف يمكن لهؤلاء "تجفيف المستنقع"؟
والمفارقة تكمن في التناقض بين وعوده لحماية الطبقات العمّالية التي أهملتها الإدارات السابقة الديمقراطية والجمهورية على حد سواء وبين نوعية الوزراء من الاوليغارشية المالية الذين أصبحوا بشكل مباشر في أروقة الحكم وليس عبر ممثّلين لهم كما كان في السابق. كما أن وعده بإسقاط قانون الرعاية الصحية المعروف باوباماكير من أول مشاريعه التي أحالها إلى الكونغرس الأميركي. لكنه اصطدم بمعارضة قوية من داخل حزبه إضافة إلى المعارضة المفتوحة من قبل الحزب الديمقراطي. فمُني الرئيس ترامب بأول هزيمة على الصعيد التشريع الداخلي بسبب عدم سيطرته على حزبه.
كما أن مشروعه لتقليص النفقات العامة اصطدم بقراره برفع نفقات وزارة الدفاع ب 52 مليار دولار ما يعني تخفيض نفقات الوزرات الأخرى منها الخارجية والتربية والبيئة. حتى اللحظة ليس من الواضح كيف سيستطيع الرئيس الأميركي تمرير مشروع موازنته التي تواجه اعتراضات من الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي وكل لأسباب مختلفة وحتى متناقضة.
أما مسرحية قراره بحظر قدوم المسلمين من عدّة دول إسلامية فجوبه بقرارات متكرّرة من المحاكم الاتحادية تنقض ذلك القرار. فهناك أكثرية وازنة بين الأميركيين تنتقد ذلك القرار بما فيه مؤسسات يهودية التي تخشى أن يتغيّر المزاج في الولايات المتحدة ويطال أيضا اليهود.
ما يزيد الأمور ارباكا وارتباكا ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن في العالم أجمع هو الصراع الداخلي في الكونغرس الأميركي. فعند تحرير هذا التقرير تواجه الإدارة الأميركية إمكانية أقفال النشاط في الحكومة والمؤسسات التابعة لها بسبب عدم التوافق على الموازنة وعلى قائمة النفقات التي تريدها الإدارة. فيصبح السؤال كيف يمكن للولايات المتحدة أن "تدير العالم" وهي عاجزة عن إدارة حكومتها ووضعها الداخلي؟
ب-التخبّط في الشق الخارجي. أما على الصعيد الخارجي فما زالت الأمور غامضة لعدّة أسباب. لكن ما يمكننا أن نستخلصه من خلال فترة المائة يوم الأولى من ولايته هي أنه يتأقلم بسرعة مع مقتضيات السياسات الخارجية السابقة العدوانية والإجرامية بطبيعتها والتي كان قد انتقدها خلال حملته الانتخابية. فما نشهده الآن هو العودة إلى سياسات أوباما وبوش الابن وإن بنكهة مختلفة. الخط البياني هو تجاهل القانون الدولي والمؤسسات الدولية وإن كانت (القانون والمؤسسات) مبنية لمصلحة الولايات المتحدة. فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي لم تعد الولايات المتحدة تتحمّل أي نوع من القيود. فكل أعمالها العسكرية في العالم هي خارج القانون الدولي. والهجوم على القاعدة السورية شعيرات أو الإنزال العسكري في شمال شرق سورية خارج إطار القانون الدولي ومجلس الأمن.
التخبّط والارتباك سمة السياسة الخارجية الأميركية قبل ترامب ومعه. والسبب الأول هو عدم وجود رؤية متماسكة للمشهد الدولي. فنظرته للأمور نظرة رجل الصفقات وليست المواقف والاستراتيجيات. فلا عداء أو صداقة مع الدول إلاّ من باب المصلحة المباشرة من خلال صفقة يمكن تسويقها كمصلحة أميركية. هذا الموقف العملي يصطدم بسياسة أسلافه التي اتسمت ببعد سياسي عقائدي كنشر الديمقراطية أو تغيير الأنظمة لتصبح تابعة لسياسة الولايات المتحدة إلخ. وهذه التوجّهات عند ترامب قد تؤدّي إلى تقليص مسرح الاشتباكات المتورّطة فيها في عدد من الدول. الولايات المتحدة متورّطة بحروب أو أعمال عسكرية مباشرة في سبع دول اليوم وتاريخ الولايات المتحدة يدلّ أن على مدى 240 سنة من عمر الدولة كانت الولايات المتحدة متورّطة (وما زالت حتى الساعة!) في حروب لمدة 215 سنة. فقط 15 سنة خلال فترة الكساد الكبير لم تكن الولايات المتحدة متورّطة في حروب. فالحروب مصدر رزق للمجمّع العسكري الصناعي الأمني وهذا المجمّع يسيطر على الدولة العميقة. فسياسة ترامب تصطدم مع مصالح المجمّع العسكري الصناعي الذي هو المحرّك الأساسي للاقتصاد الفعلي في الولايات المتحدة. لكن هناك فجوة بين رغبته في عدم توريط الولايات المتحدة في حروب لا يفهم جدواها (وهو محقّ في ذلك) وبين مقتضيات الدولة العميقة التي تعيش من الحروب. حتى الساعة ليس هناك من توجّه خاص لهذه الإدارة سواء استكمال سياسة أوباما بشكل أو بآخر.
السبب الثاني الذي يعزّز عدم وجود رؤية متماسكة هو التباين بين آراء ترامب في عدد من الملفّات كروسيا وآراء وزرائه في الخارجية والدفاع وسفيرته لدى الأمم المتحدة. فالعداء الواضح لروسيا يتحكّم بتصريحات مساعدي ترامب. فهم من صلب النخب الحاكمة التقليدية وعلى تماهي مع أهداف الدولة العميقة. بالمقابل هناك أيضا داخل البيت الأبيض من يروّج لأجندات ليست بالضرورة من اهتمامات ترامب المباشرة. فعلى سبيل المثال هناك رؤية مستشاره الاستراتيجي ستيفن بانون (المرشّح لخسارة موقعه تحت ضغط صهر الرئيس جارد كوشنير) يصف بها حتمية صراع حضارات جديد مع الإسلام بشكل عام، ومع إيران بشكل خاص، ومع الصين. فهي نسخة مجدّدة لنظرية برنارد لويس والتي روّجها سامويل هنتنغتون. 
عدم التماسك في الرؤية تجلّى في تقلّب المواقف تجاه سورية وروسيا والصين. عند تحرير هذا التقرير نشهد تقلّبات شبه يومية في مختلف الملفّات الخارجية مما ينذر بانزلاقات خطيرة بسبب الارتجال والحماقة. أو على الأقل لا يجب أن يؤخذ على معمل الجد تصريحات رموز الإدارة بل متابعة ما تقوم به الأخيرة على الأرض. وهذا ما يزيد الغموض والبلبلة.
السبب الثالث هو نجاح الدولة العميقة في إفشال أو إجهاض مبادرات ترامب في السياسة الخارجية. فبعد تصريحاته المعروفة خلال الحملة الانتخابية حول جدوى التفاهم مع روسيا على الأقل في مواجهة جماعات التعصّب والغلو والتوحّش وبالتالي التفاهم ضمن حدود مع الدولة السورية واجه وما زال يواجه موجة من الهجومات والانتقادات حول هذه السياسة. فحملة التشهير ضد كل من تواصل مع السلطات الروسية خلال الحملة الانتخابية وخلال المرحلة الانتقالية أصبح في دائرة الاتهام بالخيانة العظمى.
فهذه المواجهة مستمرة وتتسم في المرحلة الحالية في محاولة القضاء نهائيا على التقارب الممكن مع روسيا كما القضاء على محاولة إنه