www.arabnc.org
   
الصفحة الرئيسة
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
المشاركون في الدورة ا
المشاركون في الدورة ا
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول الأعضاء المشاركي
جدول المشاركين 30
جدول المشاركين 31
الأول 1990
الثاني 1991
الثالث 1992
الرابع 1993
الخامس 1994
السادس 1996
السابع 1997
الثامن 1998
التاسع 1999
العاشر 2000
الحادي عشر 2001
الثاني عشر 2002
الدورة الطارئة 2002
الرابع عشر 2003
الخامس عشر 2004
السادس عشر 2005
السابع عشر 2006
الثامن عشر 2007
التاسع عشر 2008
العشرون 2009
الواحد والعشرون 2010
الثاني والعشرون 2011
الثالث والعشرين 2012
الرابع والعشرون 2013
الخامس والعشرون 2014
السادس والعشرون 2015
السابع والعشرون 2016
الثامن والعشرون 2017
التاسع والعشرون 2018
الثلاثون 2019
الواحد والثلاثون 2022
القائمة البريدية
بحث
تصغير الخط تكبير الخط 
التجدد الحضاري 25 ((آليات مقترحة للتجدّد الحضاري 25))

المؤتمر القومي العربي
ARAB NATIONAL CONFERENCE



المؤتمر الخامس والعشرون                                           التوزيع: محدود
20 – 21 حزيران/يونيو 2014                                   الرقم: م ق ع 25/وثائق 3
بيروت - لبنان                                                      التاريخ: 20/6/2014
 


آليات مقترحة للتجدّد الحضاري **


 

د. ساسين عساف*

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، نائب رئيس المنتدى القومي العربي في لبنان، عميد كلية الآداب في الجامعة اللبنانية سابقاً.
** لا تعبر هذه الورقة بالضرورة عن رأي الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
*** لا يجوز نشر هذه الورقة كلاً أو جزءاً إلا بموافقة تحريرية من إدارة المؤتمر.
 

آليات مقترحة للتجدّد الحضاري


 

د. ساسين عساف


 

مشروع النهوض العربي يأخذ، في مسألة التجدّد الحضاري، بالعقل الحرّ والعملي القادر على تجديد الحياة الفكرية والدينية والسياسية ذلك أنّ النهوض العربي يستلزم قيام حركة تجديد في الفكر القومي العربي (العروبة) وقيام حركة تجديد في الفكر الديني (الإسلام) وقيام حركة تجديد في الفكر السياسي (النظام الحاكم).
هذا المشروع يعيد التأسيس المعرفي بالذات وبالآخر باعتماد المنهج العقلاني والعلمي والنقدي ويسقط الصور النمطية الراسخة في الأذهان فالاكتمال المعرفي بالآخر شرط من شروط التجدّد الحضاري.
ينطلق المشروع من أنّ مستقبل الوطن العربي مرتبط حكماً بالثورة التكنولوجية في صناعة المعلومات والالكترونيات وفي وسائل الإعلام والاتّصال وبناء مجتمع المعرفة.
يعتقد المشروع أنّ محنة العقل العربي ليست من أصوله أو مساره أو قدرته على التواصل والتفاعل والإبداع بل من محنة السلطة في تعاملها معه بالاعتقال والتدجين والتهجير والأبعاد والتصفية.
يهدف المشروع إلى تحويل المجتمع العربي إلى مجتمع منتج ومشارك في الحقول المعرفية والعلمية والتكنولوجية كافة وتحريره من فكرة الاستيراد والارتهان والتبعية لمصادر الإنتاج الأجنبي. ويهدف تالياً إلى القضاء على "الأمّية الثقافية".
من آليات التجدّد الحضاري لجهة المنطلق والأهداف نقترح من بينها آليات أربع:
الآلية الأولى: وعي "الأنا" و "الآخر"
يتمّ ذلك بالآتي:
 1- بتكوين وعي ثقافي لصورة الأنا وصورة الآخر، فالآخر شرط معرفي للذات، وحوار الذات مع الذات يمرّ بحوار الذات مع الآخر. انّ وعي الذات للذات ووعي الذات للآخر هو المبدأ الأوّل لترسيم الحدود معه وتعيين الفروق والمؤتلفات الثقافية والحضارية. أمّا الإقفال على الذات بداعي التحصين والممانعة خشية الآخر لا لسبب إلاّ لأنّه الآخر فقتل للذات في مآويها الثقافية الضيّقة. انطلاقاً من هذه القاعدة نعي مطويات الثقافة الأميركية وانكشافاتها العدائية والعدوانية البادية في حصاره لنا واحتلال أرضنا وقتل شعبنا و محاولات فرض السّلم الاسرائيلي علينا واتّهام مقاومتنا بالإرهاب، ونعي تالياً عدم الانجرار أو الذهاب بعيداً، كما هي الحال لدى هؤلاء الذين سوّغوا بكتاباتهم لمشروعية العدوان والاحتلال، في تمجيد الثقافة الأميركية الآتية اليهم كما يظنّون بالإنقاذ من أنظمة الاستبداد وبالتنمية والديموقراطية وبالحريات وحقوق الانسان وبالسلام العادل، كذلك نعي أهمّية عدم خيانة ذاكرتنا التاريخية وتراثهما وإرثنا الأخلاقي والروحي بأبعاده الحضارية والثقافية العريقة، فالذاكرة بما تكتنز من تراث وإرث قادرة على رفع الغطاءات المعرفية والفكرية التي توفّرها كتابات هنتنغتون حول صدام الحضارات، والذاكرة قادرة أيضاً على مدّنا بوسائل الردّ الحضاري المناسب على تلك الكتابات وأضرابها من كتابات اليمين المتصهين الداعي إلى أمركة الثقافات العالمية واستبداد القوّة. هذه الكتابات التي صاغت استراتيجيات الهيمنة يردّ عليها بغير "الغضب المكبوت" أو "العنف المتفجّر" في الخطاب الثقافي/السياسي وبغير الانتقام المازوشي من الذات بسبب انكساراتها بل بوعي المكوّنات الثقافية والحضارية لحركة الاستعمار الجديد وبوعي الخصوصية الثقافية للذات التي يمكن أن تقيها خطر الانسياق وراء استدعاءاته أو الانسحاق أمام شراسة آلياته. المواجهة بين الثقافات والحضارات فخّ نصبه للعالم منظّرو الإرهاب الفكري الأميركي الذين يحرّضون ثقافة على أخرى وحضارة على أخرى وصولاً إلى هيمنة نمط ثقافي وحضاري واحد. وهذا ما يفرض فهماً تاريخياً للثقافة الأميركية المتأصّلة في فعل الإبادات الجماعية منذ الهنود الحمر حتى فيتنام مروراً بهيروشيما وناغازاكي.
2 - باحترام الثقافات والحضارات العالمية الإنسانية والتواصل والحوار مع أهلها ومثقّفيها من شعوب العالم المستضعفة ومثقّفيه كافّة وبالتفاعل الإيجابي مع القيم اللاّعدوانية واللاّعدائية في تلك الثقافات والحضارات وبتعميق الروابط مع الجماعات المنفتحة فيها على حوار قيمي إنساني شامل، وبالتمسّك بوجود أخلاقيات عامة تختزن القيم والأفكار الانسانية الجامعة بين الشعوب ما يستدعي تالياً رفض "الثقافات والحضارات المتوحّشة" كنمط ثقافي استعماري جديد ساحق للثقافات والحضارات الأخرى، وعدم اللجوء أبداً إلى الانطواء أو الانسحاب من ثقافة المواجهة الذي تفرضه سيكولوجيا الخوف على الذات من قوّة الآخر، بل على العكس من ذلك اقتحام دوائر العقل الغربي بالحوار معه فالعقل الغربي ليس كلّه أميركيّ المنازع والأهداف. إنّه عقل أنتج ثقافات غير عنصرية مارستها شعوب بالملايين تضامنت مع قضايانا.
تقرّ بالتنوّع وتحترم القيم والخصوصيات وتسعى إلى تعميق الوعي بالروابط المعنوية والحقوقية بين البشر، وإلى فهم مشترك للتحديات العالمية وإيجاد حلول مشتركة لمشاكل العالم متمسّكة بالأخلاقيات التي قامت عليها شرعة حقوق الانسان وميثاق الأمم المتّحدة وقواعد القانون الدولي وسائر المعاهدات والمواثيق الدولية.
بالمقابل إنّ بعض مواقع الغرب الفكرية والإيديولوجية التابعة لمشروع الهيمنة الأميركية تصطنع الاسلام عدوّاً لها وتجعل من بعض ظواهره حقيقته الشاملة. مقاومة هذه المواقع ثقافياً وحضارياً تتمّ باقتحامها فاقتحام الأفكار يفتح المجال الثقافي بين العرب والغرب على غير أطروحة ومنهج وقد ينتهي إلى خلاصات فكرية وقيمية مشتركة. ثمّة إمكان، بالرّغم من كلّ التشوّهات اللاّحقة بصورة العربي عموماً والمسلم خصوصاً، لوجود فضاء ثقافي مشترك تتحرّك فيه العقول وتتجادل بعلم وموضوعية ورغبة في إعادة تأسيس معرفي سليم بالآخر. فالعرب انسانيون وآفاق عقولهم منفتحة على قيم عالمية مشتركة وليسوا تصادميين بطبيعة تكوينهم وهم ليسوا أعداء للديموقراطية والعقلانية وحقوق الإنسان وثقافتهم ليست عنصرية. إنّهم أهل جدال وانفتاح في الحركة الذهنية والكلمة السواء. وهناك الكثير من تراكم جهالات ينبغي تبديده وهناك الكثير من عقد نفسية ينبغي التغلّب عليها بعيداً عن أيّ افتعال وإشهاراً للهويّة العربية والإسلامية الحقيقية (يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..)
3 - بالاكتمال المعرفي مع الآخر. سؤال المرحلة هو الآتي: كيف للحضارة أن تنهض أو أن تتجدّد أو بالاكتمال المعرفي مع الآخر؟ المسار الحضاري العربي، على امتداد التاريخ العربي الطويل والمتواصل بعلومه وآدابه وفنونه وصناعاته وعمرانه، وفي ضوء علم الاجتماع المعرفي والمقاربات السوسيو/ثقافية، وفوق رقعة جغرافية امتدّت من جنوب فرنسا حتى تخوم الصين، اتّسع لثقافات وحضارات شعوب متعدّدة دينياً وقومياً ولغوياً وتآلف معها فأغنته وكرّسته مرجعاً ثقافياً وحضارياً لأهل زمانه. الثقافة العربية بخاصة والحضارة العربية بعامة لم تصبها يوماً عقدة التمركز على الذات والادّعاء باحتكار العلوم والمعارف، والمشروع الحضاري العربي يستمدّ قوّة استمراره من كونه يتوجّه صوب الآخر لا للهيمنة عليه بل للشراكة معه. الشراكة المعرفية هي نقطة الارتكاز للتجدّد الحضاري. لذلك، لا بدّ من مراجعة خطاب التعبئة ضدّ الآخر والبحث عن آليات التواصل بحقوله المعرفية والتحوّل اليها والتماس مناهجها والاكتمال بها سبيلاً إلى التجدّد الحضاري. العقل العربي المجرّد من منازع العصبيات والنرجسيات كفيل باختيار المناهج المعاصرة لامتلاك المعرفة وليس له ما يسوّغ عدم الأخذ بها بحجّة أنّها من صنع الآخر. إنّ السير في منطق الإحجام عن المعارف الحديثة لمجرّد كونها إنتاجاً غربياً يعاكس الاتّجاه العام الذي سلكه العقل العربي على امتداد تاريخه. والعقل العربي يوم احتجزته أصوليات أو سلفيات أو عصبيات أو نرجسيات دينية وقومية احتجبت عنه المعارف فكانت عصور انحداره وانحطاطه. المعارف هي قياس فاعلية العقل وإنجازه الحضاري. والنقص المعرفي في المجتمعات العربية يبقيها في التخلّف ودون هذا الانجاز بمسافات بعيدة. إذا كان الآخر هو مصدر المعارف الحديثة فلا مناص من السعي الى الاكتمال المعرفي معه. "اطلبوا المعرفة ولو في الصين" هي القاعدة الفقهية والشرعية التي تحكم توجّهات العقل العربي في تعامله مع الآخر. عملاً بهذه القاعدة، لم يصب النظام المعرفي عند العرب بأيّ انسداد بل ظلّ مفتوحاً على الثقافات والحضارات الوافدة.  
الآلية الثانية: وعي الحداثة
يتمّ ذلك بالآتي:
1- بإجراء مصالحة تاريخية بين العرب والحداثة. هل إيجاد معادلة بين العرب والحداثة أمر مستحيل؟ في ضوء التجربة التاريخية، على الصعيدين النظري والعملي، يبدو ذلك أمراً ممكناً. منذ خير الدين التونسي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر مروراً بمفكّري النهضة في نهاياته وبدايات القرن العشرين وانتهاء بحركة الحداثة الفكرية والأدبية التي بلغت أقصى مداها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والكلام النظري، مصحوباً ببعض الإجراءات، لم يتوقّف على "تحديث المجتمع العربي" في المجالات كافة. فالحداثة، إذاً، ليست شأناً دخيلاً على الحياة العربية بمختلف جوانبها. والحداثة هنا نعني بها العقلانية والنقدية والمعرفية الجديدة لعلاقة الديني بالسياسي والوضعية والعلمانية والعلمية والفردانية. وإن كان ثمّة من يرى في هذه المناهج خطراً على الدين فالدين وفق اجتهادات كثيرة ينطوي عليها ويدعو إلى تطبيقها وتاريخه عرف العديد من تجاربها. والحداثة من حيث هي علم وتكنولوجيا ومناهج تفكير وأساليب عمل أوصلت إلى تطويرها لا تتنافى والدين الاّ في استخدام النتائج أي في توظيفها لخدمة هدف. والحداثة ليست ديناً أو إيديولوجيا إّما هي مجموعة مناهج تفكير وأساليب عمل أدّت الى مجموعة انجازات. والموقف الديني منها يكون موقفاً من منجزاتها. فهل الدين يرفض منجزات الحداثة؟ هل الحداثة من حيث هي حرية رأي واعتقاد يرفضها الدين؟ هل ثمّة نصّ إلهي يحرّم الجديد ويدعو الى الجمود في القديم؟ هل الحداثة من حيث هي علم يرفضها الدين؟ هل ثمّة نصّ اإهي يتناقض مع العلم الحديث ويعارضه؟ هل الحداثة من حيث هي اكتشاف للحقائق يرفضها الدين؟ هل الحداثة من حيث هي تنمية وتطوّر في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بين الناس يرفضها الدين؟ اذا كان الجواب هو أنّ الدين يرفض الحداثة بتلك المضامين فهذا ما يجعل الدين قوّة استعباد وإراه ومصادمة للعقل أو طاقة التفكير الحيّ والحرّ. عندما يتحوّل الدين الى قوّة استعباد واكراه ومصادمة يضعف تأثيره في مجرى التاريخ الثقافي والحضاري. انّ أولويّة الدين ليست رفض الحداثة بل توجيه الناس الى كيفية الإفادة منها لما فيه نفعهم في حياتهم العامة والخاصة. هكذا يحتفظ الدين بدوره في تاريخ الثقافات والحضارات فلا يصبح خارجه أو عدوّه.
2- بتطوير الثوابت وبالاجتهاد على الأصل واعادة تكوين الفقه السياسي والديني والاجتماعي، بتبادل الخبرات والإنتاج المشترك بين عناصر المجتمع العربي ومؤسساته المدنية وتنمية خصوصياته الثقافية والحضارية التي تحدوه على الاتصال بتاريخه من خلال نظرته الايجابية اليه فترتسم نقاط التلاقي والتقاطع أو النفور والتعارض من داخل البنية ولا تفرض عليه من خارج.
3 - بإعادة تكوين الوعي القومي/وعي الهويّة. مسألة الهويّة هي من أهمّ المسائل الفكرية المطروحة اليوم على الوعي القومي لدى شعوب العالم النامي. من نحن؟ هو السؤال الإجرائي في سياق تطوّرات دولية تقود العالم إلى الاندماج ألقسري وفق نمط ثقافي وحضاري واحد. وفي الحالين يبقى سؤال الهويّة مطروحاً ومشروعاً إزاء ما يروّج بعنوان الغاء الآخر والتسيّد عليه. الإجابة عن هذا السؤال تكمن في السياق التاريخي للحضارة العربية. في هذا السياق توجد المنطلقات الممكنة لوعي ذاتي يرمي الى اعادة تكوين الوعي القومي بمناهج علوم الاجتماع السياسي وعلم النفس التكويني للجماعات لا الديني أو الأخلاقي فقط. إنّ حصر الوعي القومي بالبعد الديني يسقط حقيقة التراكم الحضاري ودوره في تشكيل الهويّة. فهويّة العرب القومية ليست أحادية البعد بل هي تشكّلت من تراكمات حضارية داخل مداها الجغرافي (حضارات بلاد ما بين النهرين، حضارات بلاد الشام، حضارات بلاد النيل) وعلى حدوده كحضارات الصين والهند وفارس واللإغريق وأوروبا القديمة والحديثة. انّ التصوّر التقليدي لهويّة العرب القومية يخلع عليها هالة من القدسية اللاّهوتية. انّ المكوّن اللاّهوتي للهويّة يستأخر النظرة العربية الجديدة المطلوبة الى الذات الحضارية. انّ حروب الهويات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية لا يحسمها المكوّن الطوباوي لصالح الهويّة التي تتّخذ منه سلاحها الأوحد. ثمّة تغيّر كبير طارئ على أفهوم الهويّة أوجدته الظروف العالمية الجديدة ما يفرض على العرب نظرة جديدة الى ذاتهم القومية. هذه واحدة من  الأولويات الفكرية المطروحة على الوعي القومي العربي في الزمن المعاصر.
4 - بالانتساب الى النسبية التاريخية. فالهويات ليست حقائق مطلقة تولد فيها الجماعات بأوصافها التامّة. الهوية، خصوصاً الثقافية والحضارية، هي فعل تكوّن تاريخي وهي تختلف عن الهوية الإتنية أو العرقية أو هي ليست كلّها. الهويات الإتنية هي من الحقائق الثابتة والجوهرية التي تميّز هذه الجماعة عن سواها. أمّا بالمعنى الثقافي أو الحضاري فهي من الحقائق النسبية والمتحوّلة والعارضة التي تسود في بيئة معيّنة وزمن معيّن دون سائر البيئات والأزمنة. كم هو عدد الهويات الإتنية والهويات الدينية التي تعيش في كنف الحضارة الغربية السائدة اليوم؟ في سياق الحركة التاريخية التي تتحكّم بها الشروط المادية يضعف المكوّن المعنوي للهويات (ونقصد بالمكوّن المعنوي الدين..) العرب ليسوا نصّاً دينياً إنّما هم بشر في سياق تاريخي لهم مع الآخر ما له معهم وعليهم له ما عليه لهم. هويّتهم الحضارية هي حاصل حضورهم المادي في التاريخ تقدّماً وتراجعاً أخذاً وعطاء. الهويّة العربية هي حركة مادية في التاريخ. المواريث الحضارية السابقة على النصّ الديني موجودة في أصولها التكوينية. كم من حضارات شعوب وثقافات شعوب هي مكوّن أصيل في الحضارة العربية والثقافة العربية؟ العرب بعد الاسلام تفاعلوا مع تلك المواريث فوق أرض واسعة على امتداد قرون فكان تعدّد الهويات الدينية والعرقية عامل اغناء لهويتهم الحضارية، وعليه، انّ الهويّة الحضارية هي تشكّل تاريخي محكوم بالتحوّل والنسبية على قاعدة أنّ التاريخ هو حاصل علاقة الأنا بالآخر.
الآلية الثالثة: بناء مجتمع المعرفة والمعلومات
قانون التحوّل في بنية المجتمع ومضمون الهويّة الحضارية هو القانون الحاكم لمسيرة الشعوب في  سياق تطوّرها التاريخي. من أحكامه الحتمية أن كلّ ما هو تاريخي لا يمتلك في ذاته كامل قوّة دفعه أو تحوّله بل هو مشروط حكماً بتأثيرات من خارج حدوده.
المجتمع العربي الراهن يواجه تحديات الخارج العاصف من حوله وداخله عبر الضغوط السياسية والاحتلال العسكري من جهة وعبر ثورة الاتصالات والتكنولوجيا المعلوماتية من جهة أخرى. انّه في قلب الحدث التغييري.
ما يعنينا في هذا السياق هو مجتمع المعرفة والمعلومات الواجب بناؤه لإغناء هويّتنا الحضارية، وذلك:
1- بتطبيق شرعة حقوق الانسان: مقدّم تلك الحقوق الحريات العامّة والخاصّة وفي مقدّم تلك الحريات الحرية الفكرية التي منها الحرية الاعلامية، حرية الرأي والتعبير والاستعلام والبحث، وهذا ما يفرض مجموعة اجراءات كإلغاء القوانين والتدابير الادارية المقيّدة للحريات وتفكيك أجهزة "الأمن الثقافي" المهيمنة على مؤسسات الابداع والانتاج المعرفي ووسائل استجلابه ونشره.
2- بتطبيق مبادئ "الإعلان العالمي للتنوّع الثقافي": التعدّدية الثقافية هي المكوّن الرئيس لمجتمع المعلومات ما يفرض الاعتراف بالآخر وبمشروعية تمايزه وتالياً الانفتاح عليه والتواصل معه، ويفرض كذلك تحرير المجتمع من تسلّط الايديولوجيا الواحدة ومدرسة التوجيه السياسي والفكري ( تسلّط حزب أو عقيدة أو شخص أو فئة... ) واتاحة الفرص أمام قوى المجتمع المدني لامتلاك المؤسسات الثقافية ومنها المؤسسة المعلوماتية، فالإنتاج المعرفي يصنعه المجتمع.
3- ببناء الاقتصاد المنتج: التنمية الشاملة، القطاعية والبشرية، تضاعف وتراكم الناتج الاقتصادي ومعدّلات النموّ الى جانب بلوغ حياة فكرية ومعرفية علمية وتكنولوجية متقدّمة. من شروط ذلك الاستثمار المالي وتوظيف الأدمغة والكفاءات العالية في مؤسسات الانتاج المعرفي لتعزيز قدراتها على التجهيز والاعداد والتواصل والانتاج. من نتائج ذلك ارتفاع نسبة المتعلّمين في المجتمع الى ما يتجاوز السبعين في المئة وارتفاع نسبة القادرين على استخدام وسائل الاتّصالات الحديثة وتكنولوجيا المعلومات الى ما يتجاوز الخمسين في المئة. من نتائج ذلك أيضاً ازدياد عدد الاصدارات (كتب، بحوث، مجلاّت، صحف...) وعدد مواقع الانترنيت والفضائيات. 
الاقتصاد الريعي الاستهلاكي لا ينتج المعرفة بل يكتفي بنقلها أو شرائها ولا يستثمر فيها كحقل منتج بل يشجّع على الانفاق لاستيرادها واستهلاكها. هذا ما يعمّق التبعيّة الثقافية ويسيء تالياً إلى مستقبل الهويّة الحضارية ويجعل المجتمع العربي يعاني نزفاً بشرياً دائماً يعرف بهجرة الأدمغة والكفاءات العلمية والتكنولوجية العالية. هذا ما أدّى ويؤدّي الى اتّساع الفجوة بينه والمجتمعات المتقدّمة والى استنزاف موارده وضعف استثماراته وتعميق تبعيّته وارتهانه المعرفي للمركزية الغربية، في حين أنّ  مجتمع المعلومات مجتمع جاذب للأدمغة لا طارد لها. الأدمغة هي العنصر الجاذب للمعلومات الى مجتمع المعرفة وهي العنصر الأهمّ في عناصر الانتاج والتنمية الانسانية التي هي شكلّ من أشكال تنمية الهويّة. الهويات تخضع لقانون النموّ المطّرد وهي دائماً تعاني نقصاً يحدوها على طلب التدرّج أو الارتقاء المعرفي. وحدهم أصحابها من أهل الكفاءات العالية يوفّرون لها ذلك. المجتمع العربي مجتمع طارد ونابذ لعقول أبنائه، وذلك لأسباب جمّة. أمّا رأسها فهو الاستبداد وغياب الحرية الفكرية والبحثية والمعلوماتية.
المجتمع العربي يعاني اشكالية العجز شبه التام عن الانتاج المعرفي.
في هذا المنعطف الدقيق من تاريخ العرب يواجه المجتمع العربي تحديات التحوّل الذي بدأت تتوضّح معالمه على الصعيدين العلمي والتكنولوجي. هذه المعالم ما زالت خجولة بالنظر الى ما يتمتّع به الوطن العربي من امكانات اقتصادية وبشرية وحضارية بدّدتها سياسات أنظمة لم تؤمن يوماً بأنّ الإنسان العربي هو قيمة في ذاته وأنّه صاحب حقوق وفي أساسها الحقّ في التفاعل مع نهضة العالم المتقدّم وثورته العلمية والتكنولوجية من موقع المنتج والمشارك لا المستهلك والمتلقّي.
فكرة الاستيراد هي محور السياسات العربية الرّسمية والاعتماد على الآخر هو القاعدة الثابتة في تلك السياسات ما أوقع المجتمع في أسر الارتهان لمصادر الانتاج المعرفي.
75 % من ثلاث مئة مليون عربي يعيشون في "الأمّية الثقافية".
25 % منهم يعيشون في التبعية العلمية. وعليه،
انّ المجتمع العربي الراهن يعيش على هامش الانتاج العلمي والتجدّد الحضاري.
ففي الرّبع الأخير من القرن الماضي لم يكن للعرب اسهامات علمية ذات شأن في الانتاج المعرفي العالمي. فكيف سيكون عليه الحال في الرّبع الأوّل من القرن الحالي والمجتمع العربي تتحكّم به سلطات رسمية (سياسية ودينية) تصرّ على عزله وترفض ادخاله في "الفضاء الثقافي" العالمي بحجّة الحفاظ على الهويّة؟
العقل المتسلّط في المجتمع العربي يرى الى الهويّة بنية ساكنة وثابتة وعصيّة على الحراك الانقلابي والتحوّل الجذري.
ثمّة خلل في بنية هذا العقل الحاكم في تعامله مع العلم والتكنولوجيا ما أقعد المجتمع عن الانتاج المعرفي.
4- المجتمع العربي يعيش في إشكالية ناتجة عن علاقة الدين بمجتمع المعلومات (الدين من حيث هو محدّد رئيس، غيبي ومادّي، من محدّدات الهويّة). هل تسمح حاكميّة الفكر الديني بمجتمع معلوماتي مفتوح؟
هل تسمح بتفلّت الهويّة من قوانينها وأحكامها؟
هل تتخلّى هذه الحاكمية عن دورها في ضبط "الشخصيّة الحضارية" أو الهوية التاريخية للأمّة؟
عقلنة الفكر الديني وأنسنته أساسان أوّلان لبناء مجتمع المعلومات والاّ فرض هذا المجتمع نفسه على الدين ونازله وربّما أقصاه أو ربّما مكّنه من تشديد قبضته على الهويّة. 
5- المجتمع العربي يعيش في اشكالية ناتجة عن علاقة "السلطة المستبدّة" بمجتمع المعلومات.
هل تسمح هذه السلطة بتوسيع هامش الحريات في الوطن العربي؟
هل تتخلّى عن "حقّها" في صناعة الانسان العربي وفق مقاييس تؤمّن لها الاستقرار والديمومة؟
الإقفال على الحرية إقفال على المعرفة والتنمية. السلطة السياسية تستسيغ النمط المعرفي المنسجم مع توجّهاتها وتدعمه وتنبذ وتحارب النمط المعرفي المعارض.
فكيف اذا كانت هذه السلطة التي تمارس الاكراه السياسي تحكم باسم الدين؟
انّها تستظلّ الدين وتسخّره لمآربها باعتباره، في أذهان العامّة، النمط المعرفي الأوحد الذي ينبغي أن يسود وأن ينابذ سائر الأنماط المعرفية الوافدة من خارج حدوده. هنا نسأل:
هل المجتمع العربي قادر على أن يتحوّل الى مجتمع معلومات، أي الى مجتمع أنماط معرفية متعدّدة، بالاستقلال عن "سلطة الاستبداد"؟
غياب الديمقراطية يشكّل عائقاً أساسياً أمام تنمية الهويّة التنمية الثقافية التي يوجبها ويدفع بها قدماً مجتمع المعلومات فهو الذي يغني التنوّع الثقافي في هويّة الأمّة ويعزّز بعدها الانساني ويجعلها منفتحة على الأبعاد الانسانية في الثقافات الأخرى.
الألفية الثالثة هي ألفية المعلومات الآتية من كلّ مكان الى مكان واحد ومن كلّ لحظة الى لحظة كونية واحدة، أتسمح "سلطة الاستبداد" في المجتمع العربي بإدخال الهويّة في هذه الألفيّة وتنسيبها الى وحدة المكان ووحدة اللحظة؟
هذا الشكل من أشكال التنسيب المعرفي الكوني يعني "المزامنة" أو المعاصرة ويعني "المماكنة" أو المساكنة.
أتسمح بذلك أم ستشدّد عليها الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ والمحاكم الاستثنائية وواحدية النمط في النظرة الى الذات والآخر؟
"الهويّة المنقوصة" هي هويّة من يرى اكتمالاً في ذاته ونقصاً في سواه. هي هويّة من يعيش هلعاً تاريخياً من الآخر (فوبيا) ويجد فيه على الدوام مصدر مؤامرة عليه أو خطر.
مجتمع المعلومات، في ظلّ الديموقراطية، يقدّم فرصاً للهويات المنقوصة كي تمارس حقّها في المعرفة والمشاركة والانخراط في السياق الثقافي العالمي.  مجتمع المعلومات هو مجتمع مفتوح وكوسموبوليتي الهويّة فيه تشكّل ثقافي حضاري مستمرّ ومتحوّل.
أمّا في ظلّ الديكتاتورية العالمية أو "العولمة المتوحّشة" الساعية إلى الهيمنة عبر مجتمع المعلومات فتحدث ردّات فعل نابذة لها تساعد الهويّة على الممانعة وتحصين الذات والتأصّل في ثوابتها وانتماءاتها الأوّلية. الخصوصيّة الثقافية المعبّرة عن نفسها بردّات فعل نابذة للهيمنة تحمي الهويات.
"العولمة المتوحّشة" كما تقدّم نفسها اليوم صداماً بين الحضارات ونهاية للتاريخ ونزعة إمبراطورية للسيطرة على العالم باستخدامها، الى جانب قوّتها العسكرية، "القنبلة المعلوماتية" هي التي تشكّل خطراً على التنوّع الثقافي والهويات المحلّية المميّزة للمجموعات والمجتمعات التي تتألّف منها الإنسانية.
انّها تتوسّل مجتمع المعلومات للسيطرة والتهميش والاستتباع المعرفي والقيمي كذلك ولتسييد معارفها وقيمها وعقائدها على ما يسمّيه أسيادها "المجتمعات غير المندمجة" أو "البؤر العاصية". 
أمّا "العولمة الإنسانية" الساعية إلى نشر المعرفة والى خلق ظروف التواصل والتفاعل بين الهويات عبر مجتمع المعلومات فهي إغناء للهويّة. هنا ينحرف الأفهوم في اتّجاه أخلاقي ما سمح، تالياً، بالكلام على "أخلاقيات مجتمع المعلومات".
العالم كلّه، بموجب هذه "الأخلاقيات"، يتحوّل إلى ساحة تفاعل انساني تعزّزه تكنولوجيا المعلومات التي تلغي الحدود ولكنّها تغني الهويات. الهويات الحضارية والثقافية لم تعد أسيرة الجغرافيا. لذلك انّ الكلام على الجغرافيا الثقافية للهويات يتجاوز بكثير الكلام على الحدود بين الدول. اذا كانت الدولة تعرف بحدودها (الكيان الجغرافي) فانّ الهويّة تعرف بمداها (الفضاء الثقافي) لم يعد التلازم قائماً بين الدولة والهويّة الاّ في موضوعة الأحوال الشخصيّة. السؤال عن الانتماء بات مرتبطاً بالفضاء الثقافي وليس بالكيان الجغرافي. وعليه،
انّ الكلام على زوال دولة الحدود، بالمعنى الثقافي، هو صحيح وواقع في سياقه التاريخي.
عندما تتحوّل الهويات إلى فضاءات ثقافية متواصلة (والفضل في تواصلها يعود الى ثورة الاتصالات والمعلوماتية) يكون مجتمع المعلومات عامل اغناء للهويّة لا عامل إلغاء لها، ويكون، تالياً، عامل تحويل الفرد من مقيم في دولة (داخل كيان جغرافي) إلى مرتحل في فضاء (داخل كيان ثقافي). 
إذا كانت الطائرة وسيلة انتقال الانسان وتخطّي حدود الدول فانّ ما جاءت به ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات هو وسيلة انتقال من نوع آخر في مطلع القرن الواحد والعشرين.
واذا كان الانسان ولا يزال يتنقّل جسدياً بالطائرة بين عواصم الدول فانّه اليوم يتنقّل ثقافياً ومعرفياً بين مواقع الانترنت مستجلباً عواصم الثقافة والمعرفة الى مكان اقامته.
أليس ذلك تبدّلاً نوعياً في العلاقة بين الهويات؟
الآلية الرابعة:التجدّد باللغة
اللغة مكوّن رئيس من مكوّنات الهويّة الثقافية والحضارية. انّها عنصر من العناصر الفارقة بين الهويات. انّها التعبير الاوفى عن الخصوصية وهي تجسّد "روح الأمّة" وتحفظ ارثها وتراثها الحضاري وتحمي هويتها التاريخية. فاللغة إذاً تعبير عن "الروح" القومي أو عن تركيب عقلي ونفسي ووجداني مخصوص به شعب ما.
اللغة في الوعي الثقافي الاتمّ هي الهويّة كونها أنظمة معارف وقيم وأنماط سلوك. تؤيّد هذا المفهوم علوم حديثة، منها: علم ما وراء اللغة أو فلسفة اللغة وعلم الاجتماع اللغوي وعلم النفس اللغوي وانتروبولوجيا اللغة.
مسألة الهويّة، ببعديها الثقافي والحضاري، هي مسألة لغوية في المقام الأوّل.
منذ خمسينيات القرن الماضي تنبّأ آنشتين باختراع ما أسماه "القنبلة المعلوماتية" فصحّت نبوءته وبدأت الالفية الثالثة على ايقاع حرب من نوع جديد هي حرب المعلوماتية عبر اللغة حتى بات السؤال المطروح من أنا أو من نحن سؤالاً طبيعياً يتردّد على ألسنة من يعيش في إشكالية الثنائيات اللغوية أو ثلاثياتها أو رباعياتها أحياناً.
يبدو أنّ اللغة العربية، في عصر التواصل وتكنولوجيا المعلومات، باتت المكوّن الأضعف بين مكوّنات الهويّة فهيمنت اللغات الأجنبية على المجتمع العربي ما يحدو على السؤال: ما مصير اللغة العربية؟
الانكماش المعرفي باللغة الأمّ يؤدّي حكماً إلى انكماش الهويّة (تقلّص أبعادها المعرفية والثقافية) وإلى تعذّر اللحاق بالرّكب الحضاري. وهذا ما يحوّل العرب الى هويّة معرفية وثقافية تابعة  (التبعية في حدّها الأدنى ) وفي هذا خطر كبير على نظامهم التربوي والتعليمي الذي قد يفرض عليهم، في آخر المطاف، التعلّم والتعليم باللغات الأجنبية، وهذا من شرّ الأذيّات التي قد تلحق بالهويّة.
أن تصبح اللغة العربية في عداد اللغات الميتة (علمياً ومعرفياً) فهذا يعني أنّ الهويّة العربية (بالمعنى الثقافي والحضاري) أصبحت هويّة متحفية (هويّة تراث لا مستقبل).
تشويه الهويّة وتبخيسها في زمن "الإنسان المتّصل" هو ناتج موضوعي لتفوّق اللغات الأجنبية على اللغة القومية في تكنولوجيا المعلومات.
"الهوية الضامرة" ثقافياً هي المعادل الموضوعي لقصور اللغة في الحقل المعلوماتي، فاللغة هي من أبرز وأهمّ مقوّمات تكنولوجيا المعلومات وإنتاج الثقافة.
الوافد الثقافي عبر الشبكات العالمية بقصد الهيمنة يأتي ليكتسح الهويّة. الهدف من الهيمنة الثقافية، عدا الانتفاع الاقتصادي، هو "تصنيف الشعوب" لغوياً وتحديد انتماءاتها الثقافية والحضارية. ثمّة لغات في عصر المعلومات مهدّدة بأن تصبح معدومة الصلاحية ومنها اللغة العربية، وذلك لعدم استخدامها في تكنولوجيا المعلومات.
انعدام صلاحية اللغة في المجال المعلوماتي يؤذي الهويّة لأنّ اللغة المستعارة تجلب معها هويّتها. المسألة ليست تقنية فحسب بل هي تمسّ جوهر التفكير ومنهجياته.
إنّ شعباً ينطق بلغة ويتعلّم من الآخر ويتواصل معه بلغة أخرى هو شعب معرّض لفقدان هويّته الثقافية وللهيمنات كافّة.
من مآزق الهويات في عصر المعلومات وقوعها في "الازدواج اللغوي" خصوصاً متى كانت الواحدة من هاتين اللغتين (اللغة الأم ) للاستخدام العادي وكانت الأخرى (اللغة الأجنبية) للتعلّم والتواصل والانتاج، أي للاستخدام الثقافي.
انفصام الهويات هو الداء المستقبلي الذي ستصاب به شعوب العالم اذا تمكّنت آليّات تكنولوجيا التواصل من اجتياحه.
الاستخدام ألمعلوماتي له طرفان: المرسل والمرسل اليه. هل الطرف الثاني قادر على التعامل الندّي مع الطرف الأوّل؟
المعلومة الوافدة عبر شبكات التواصل باللغات الأجنبية هي واحدة من آليات السيطرة الثقافية، وظيفتها هي التجريد والاحلال، تجريد المرسل اليه من لغته واحلال لغة المرسل فيه. 
السيطرة على شبكات الاتصال والصناعة المعلوماتية (السيطرة عبر الفضاء)هي الحاسم الفاعل في حرب الهويات اللغوية بين من له القدرة على الإرسال ومن ليس له سوى حتميّة التلقّي. 
ما هو تأثير اللغات الاجنبية المستخدمة في صناعة المعلومات وتصديرها في تشكيل هوية المتعلّم واخراجه من اللغة الأمّ؟
آلة التغريب والغزو والإختراق والإستتباع الثقافي تقضم مؤسسات التربية والتعليم والإعلام والإعلان وسائر مؤسسات الإنتاج أو الإستيراد المعرفي والعلمي والتكنولوجي. والسؤال المطروح يكمن في مدى تأثير هذه الآلة المسنّنة باللغة في تشكيل هوية المتعلّم الثقافية. من مآزق الهويات والتباساتها في الزمن الراهن وقوع أبنائها بين أسنان هذه الآلة. فاللغة المسيطرة على شبكات الاتصال الإلكتروني والصناعة المعلوماتية والالكترونية تغلّب ثقافة من له القدرة على الانتاج والتصدير على ثقافة من ليس له سوى الاستهلاك والتلقّي. وثمّة قانون تاريخي تشهد بصحّته الوقائع يقول: انّ الامم تؤخذ من عقول أبنائها قبل أن تؤخذ بسلاح أعدائها. والسلاح الأمضى في السيطرة على العقول هو اللغة. (حركة الاستشراق والارساليات مهّدت لحركة الاستعمار).
اللغة وسيلة معرفية في خدمة السيطرة. المؤرّخ بول كينيدي يقول: "التاريخ يخلق رابحين وخاسرين. المعرفة هي المعيار، هي الفيصل بين الرابحين والخاسرين. المعرفة تعيد صياغة الهويّة"..
فردريك جيمسون، أوّل من نظر الى الرابط بين الثقافة (العلم) والسياسة (السيطرة) يطرح ما يلي:
* هل نحن نسير نحو ثقافة كونية واحدة تكون فيها الهيمنة للفنون البصرية (الإعلام والإعلان ) وللّغة الانكليزية؟
* هل الشكل الجديد للصراع المعرفي هو بين من يمتلك المعرفة ويسيطر بالقوّة اللغوية وبين من لا يمتلكها؟
صناعة العقول والأمزجة والأهواء والأذواق والسيطرة عليها مهنة ينجح في ممارستها من يمتلك قوّة المعرفة مصحوبة بقوّة السيطرة الخفية أي تكنولوجيا التواصل باللغة المباشرة والدقيقة والواضحة والبسيطة والسريعة في مستوى الإيصال والافهام. يقول فريدمان، أحد منظّري العولمة، "في الماضي كان الكبير يأكل الصغير أمّا اليوم فالسريع يأكل البطيء". اللغة تظهّر السرعة.. ومتعلّمو اليوم يلجئون بالضرورة إلى اللغة التي توصلهم الى مادّة تعلّمهم بالسرعة القصوى.
أنّ العاملين لحساب آلة التغريب والغزو والاختراق والاستتباع الثقافي والمشدوهين أمام نجاحاتها في "تحضير الشعوب وتنميتها وتحديثها وعصرنتها وعولمتها" عبر اللغة أصبحت اللغة العربية عندهم لغة شائخة رمز التخلّف والبطء والعجز، وأمست اللغات الأجنبية لديهم بطاقة انتساب سريع الى النموذج الثقافي أو الحضاري الغربي. والحجّة في ذلك تحرير الذات بتحطيم قيدها اللغوي وإخراجها من دائرة الانغلاق الحضاري تجديداً لها ووصلاً بالحداثة والمعاصرة وانجازات العولمة التي لا تنتظر المتخلّفين عن اللحاق بها حتى بات يقيناً عند الكثيرين، خصوصاً من العاملين في مؤسسات التربية والتعليم في مختلف مراحله، أنّ امتلاك اللغة الأجنبية وسيلة تكوين معرفي وعلمي وتكنولوجي هو بطاقة صعود السلّم الكهربائي السحري الموصل الى "العالمية".. أنّها إشكالية التوق إلى "عالمية" بدون جذور!
هويّة المتعلّم ليست قميصاً يبدّل عند الاقتضاء. وليس من اليسر في شيء الدخول السهل في "الهويات المصطنعة". هنا تكمن مسؤولية المؤسسات المعنية.
مسؤولية المؤسسات التربوية والتعليمية والاعلامية في حماية هويّة المتعلّم باللغة الأم:
الحدود بين الخصوصية والعمومية في المجالات العلمية والمعرفية والتكنولوجية حدود متداخلة بفضل المنجز المعلوماتي الهائل الذي جعل الكلّ مترابطاً مع الكلّ. هنا تجد المؤسسات المعنية بالتربية والتعليم ونقل المعلومة أمام تحدّ عنوانه معرفة ترسيم الحدود بشكل يسمح لها بالقيام بدور توليفي بين الذات والآخر تفادياً للتبعية والتهميش من جهة وللتخلّف من جهة أخرى فلا تنزلق في خدمة برامج السيطرة الاجنبية ولا تنقاد بضغط الخوف من ثقافة الآخر الى ممانعة مجّانية ترتدّ على الذات قطعاً معرفياً يؤدّي بها الى الموت البطيء في مأوييها الثقافية. اللغة الأم واحد من هذه المأوي التي يمرّ العالم اليوم في مرحلة تفكيكها والخروج منها الى رحاب العالمية.
المنهج التوليفي مسألة صعبة ومعقّدة خصوصاً في مجال التربية والتعليم.. لذلك نقترح على المؤسسات المعنية اعتماد اللغة العربية في التعليم في أنواعه ومراحله كافة خصوصاً في العلوم الانسانية والاجتماعية والتربوية حيث لا تقوم اللغة بوظيفة إيصالية فقط بل بوظيفة تكوينية، فالألسنيون وعلماء اللغة يجمعون أنّ اللغة هي بنية معرفية ونظام تفكير ونمط سلوك وتعبير ومحفّز رغبات وتوجيه والتصاق حميمي بتراثها وأهلها.. بهذا المعنى هي وسيلة استتباع ثقافي وانحراف أو تبديل أو تعديل بالهوية الأصلية وتغريب عنها وانزياح عن الذات للتماهي بالآخر أو تلبّس أحواله والتمثّل به والتنميط عليه.
المنهج التوليفي يسهل اعتماده اذا أدرك القيّمون على المؤسسة التربوية والتعليمية أنّ الارتباط باللغة العربية هو ارتباط كينوني/عضوي.. هو ارتباط هوية.. وأنّ الارتباط باللغات الأجنبية، على أهمّيته وضرورة استمراره لكي لا يقع المتعلّم في "الأمّية الثقافية" أو القطع المعرفي، هو ارتباط وظائفي لإغناء الهوية. لذلك انّ مسؤولية المؤسسة التعليمية تكون باعتماد اللغة العربية لغة تعليم واللغات الأجنبية لغات تعلّم وتثقّف واكتناز معرفي.. ولكي يتّهيّأ للمتعلّم استخدام الاجنبية لغة تعلّم ينبغي ايلاؤها الاهتمام الكافي في مناهج التعليم والانشطة المرافقة..
باختصار نقول: اذا كان القصد من التربية حماية الهوية وتنميتها فالمقترح لبلوغه هو اعتماد العربية لغة تأصيل وتكوين واعتماد الاجنبية لغة اغناء وتمكين.
اللغة الأم وحماية هوية المتعلّم عبر التأصيل والتكوين.
المفكّر الجزائري عبد الحميد بن باديس ربط بين اللغة العربية والهوية القومية. يقول: "أنّ اللغة العربية.. لغة القومية.. وحدها الرابطة بيننا وبين ماضينا وهي وحدها المقياس الذي نقيس به أرواحنا بأرواح أسلافنا".. في هذا الكلام تأكيد الفعل التأصيلي للّغة.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل رفضت طلب أردوغان افتتاح مدارس تركية في ألمانيا قائلة: "لا للمدارس التركية في ألمانيا".. وحجتها في ذلك أن وجود هذه المدارس يعيق اندماج الجالية التركية ويخلق مجتمعاً موازياً للمجتمع الالماني.. وأردفت: "من يعش في ألمانيا عليه أن يتعلم بالألمانية"... في هذا الكلام تأكيد الفعل التكويني للّغة.
منذ منتصف القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي أنشئت المدارس الأجنبية في عدد من أقطار الوطن العربي، في المشرق كما في المغرب، كل منها تعلّم بلغتها و تنشر ثقافتها.
بصرف النظر عن مستوى التعليم الجيّد الذي قدّمته تلك المدارس فالسؤال المطروح في سياق ما نحن بصدده هو: ما مدى تأثير هذا التعليم في تفكيك الهوية الثقافية لأبناء تلك الأقطار وإدخالهم في هويات غريبة بفصلهم عن أصولهم المعرفية والقيمية والسلوكية؟ ( تجربة الجزائر ولبنان من أغنى التجارب الدالّة على التفكيك والتغريب متى غيّبت اللغة الأم وانعدمت قدرتها على التكوين والتأصيل)
تغييب اللغة العربية أسهم بخلق مجتمعات متعدّدة التركيب المعرفي والسلوكي والقيمي فاقدة لارتباطها بهويتها القومية. انتهى بعض أفرادها إلى ما أسمّيه "العمالة الحضارية " الصريحة للغرب، ومنهم من خضع طوعاً لما أسمّيه "استعمار الضرورة" ومنهم، ولو مخلصاً، من عاش في "فصام ثقافي  حال دونه والقدرة على حسم الاتجاه في مستوى الهوية والانتماء.
وتبقى الإجابة عن سؤال رئيس: هل اللغة العربية بما هي عليه الان قادرة على حماية الهوية الحضارية؟
نستلّ الإجابة من العلاّمة اللغوي الشيخ عبدالله العلايلي: "علّة النهضة في اللغة العربية ليست منها وفيها بل هي علّة من العرب وفيهم.. العرب هم الذين يمتلكونها والعكس لا يستقيم.. ومالك الشيء مسؤول عن سقمه.. واللغة العربية تالياً ليست مسؤولة عن تخلّفنا"..
إنّ محنة اللغة العربية هي من محنة العقل العربي وعجزها من عجزه، فيوم كان هذا العقل مصدر الابداعات في العلوم كافة كانت العربية لغة الشعوب القريبة والبعيدة، كانت لغة العصر يوم كان العرب أسياده..
اللغات وعاء ما تنتجه العقول والألباب وحافظه وناقله وحاميه. بهذا المعنى تحمي اللغة الأم هوية المتعلّم عبر التأصيل والتكوين.
اللغة الأجنبية وتنمية هوية المتعلّم عبر الإغناء والتمكين:
اللغة الأجنبية هي الأداة الأفعل للتواصل مع الآخر بما هو ضرورة للذات في صيرورة ما أسمّيه "تمكين الذات عبر الاكتمال المعرفي بالآخر".
لهذا أنّ مؤسسات التربية والتعليم مدعوّة الى إعداد المتعلّم وتدريبه على الأخذ بالوافد المعرفي بلغته الأصلية وذلك عبر تعليمه هذه اللغة بأرقى مستويات التعليم. هنا يتّضح الفرق بين لغة أجنبية يتمّ تعليمها (اللغة مادة تعليمية بهدف تمكيني) ليغتني المتعلّم بها ويتمكّن من استجلاب معارفها وبين لغة أجنبية يتمّ التعليم بها (اللغة وسيلة تعليمية بهدف تكويني)
اللغة الأجنبية بوصفها مادّة تعليمية تسهم في تنمية الهوية.
اللغة الأجنبية بوصفها وسيلة تعليمية تسهم في ضمور الهوية.
إنّ "لغة الاغتيار الثقافي" إذا سادت، كما هي سائدة اليوم في بعض جوانب حياتنا العامة، أدخلتنا في ما أسميناه في كلام سابق "التباسات الهويّة" أو في ما أسمّيه هنا "الهويات المائعة"..
في مرحلة استهداف الهويات والذاتيات القومية الشعوب الجادّة لا تستسيغ الفيض في الاختلاف الثقافي أو "الترف اللغوي" الذي يتّخذ من أزعومة التعدّد الحضاري وحرية التعليم حجّة وجود وشرعيّة بقاء.
المستساغ، والحالة هذه، هو استخدام اللغة الأجنبية جواز عبور الى الآخر وادراكه والحوار معه وفهمه والتعلّم منه وتوظيفه في تنمية الذات وتمكينها من الاستواء على خطّ التقدّم المعرفي والعلمي والتكنولوجي وخطّ التواصل الانساني الرّحب وابداعاته الفكرية والادبية والفنّية.
بهذا الأفق المفتوح على الآخر نرى إلى اللغة الأجنبية وسيلة إغناء وتمكين.
هذه الآليات المقترحة تأتي تلبية لنداء الحاضر وموجباته نظراً للتحديات الخارجية المطروحة على المجتمع العربي ونظراً لما يعتمل داخله من محاولات تغيير لن تبلغ غاياتها في رأينا ما لم تكن عناصر التجدّد الحضاري خصوصاً عنصري الفكر الديني والفكر القومي في حيّز التطلّع التجديدي لدى التغييرين المنخرطين في مشروع النهوض الحضاري العربي. لذلك نقترح أن يشكّل هذان العنصران مضمون ورقة التجدّد الحضاري التي سيعدّها المؤتمر لدورته القادمة.